كتاب التفكير العلمي

التفكير العلمي



تأليف : فؤاد زكريا
نشر : سلسلة عالم المعرفة - الكويت
طبعة جديدة منقحة - 2022


مقدمة الكتاب

ليس التفكير العلمي هو تفكير العلماء بالضرورة، فالعالم يفكر في مشكلة متخصصة، هي في أغلب الأحيان منتمية إلى ميدان لا يستطيع غير المتخصص أن يخوضه، بل قد لا يعرف في بعض الحالات أنه أصلا موجود وهو يستخدم في تفكيره وفي التعبير عنه لغة متخصصة يستطيع أن يتداولها مع غيره من العلماء، هي لغة اصطلاحات ورموز متعارف عليها بينهم، وإن كانت مختلفة كل الاختلاف عن تلك اللغة التي يستخدمها الناس في حديثهم ومعاملاتهم المألوفة. وتفكير العالم يرتكز على حصيلة ضخمة من المعلومات، بل إنه يفترض مقدما كل ما توصلت إليه البشرية طوال تاريخها الماضي في ذلك الميدان المعيّن من ميادين العلم.

أما التفكير العلمي الذي نقصده فلا ينصب على مشكلة متخصصة بعينها، أو حتى على مجموعة المشكلات المحددة التي يعالجها العلماء، ولا يفترض معرفة بلغة علمية أو رموز رياضية خاصة، ولا يقتضي أن يكون ذهن المرء محتشدا بالمعلومات العلمية أو مدربا على البحث المؤدي إلى حل مشكلات العالم الطبيعي أو الإنساني. 

بل إن ما نود أن نتحدث عنه هو ذلك النوع من التفكير المنظم، الذي يمكن أن نستخدمه في شؤون حياتنا اليومية، أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المهنية المعتادة، أو في علاقاتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا. وكل ما يُشترط في هذا التفكير هو أن يكون منظما، وأن يُبنى على مجموعة من المبادئ التي نطبقها في كل لحظة من دون أن نشعر بها شعورا واعيا، مثل مبدأ استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آن واحد والمبدأ القائل إن لكل حادث سببا، وإن من المحال أن يحدث شيء من لا شيء. 

هذا النوع من التفكير هو ذلك الذي يتبقى في أذهاننا من حصيلة ذلك العمل الشاق الذي اضطلع به العلماء، ومازالوا يضطلعون به من أجل اكتساب المعرفة والتوصل إلى حقائق الأشياء. فبناء العلم يعلو طابقا فوق طابق، وكل عالم يضيف إليه لبنة صغيرة، وربما اكتفى بإصلاح وضع لبنة سابقة أضافها إليه غيره من قبل. ولكن الأغلبية الساحقة من البشر لا تعرف تفاصيل ذلك البناء، ولا تعلم الكثير عن تلك الجهود المضنية التي بذلت حتى وصل إلى ارتفاعه هذا. 

وهي تكتفي بأن تستخدمه وتنتفع منه من دون أن تعرف إلا أقل القليل عن الطرق المستخدمة في تشييده، وهذا أمر طبيعي لأن العلم قد تحوّل على مر العصور، إلى نشاط يزداد تخصصا بالتدريج، ولا تقدر على استيعابه إلا فئة من البشر أعدت نفسها له إعدادا شاقا ومعقدا ولكن هل يعني ذلك أن جمهرة الناس لم تتأثر بشيء مما زودها به العلم، فيما عدا تطبيقاته؟ وهل يعني أن العلم لم يترك أثرا في أي عقول فيما عدا عقول العلماء المشتغلين به؟ الواقع أن العلم، وإن كانت تفاصيله وأساليبه الفنية مجهولة لدى أغلبية البشر، قد ترك في عقول الناس آثارا لا تُمحى، أعني أساليب معينة في التفكير لم تكن ميسورة للناس قبل ظهور عصر العلم، وكانت في المراحل الأولى من ذلك العمر مختلطة بأساليب أخرى مضطربة مشوشة وقفت حائلا دون نمو العقل الإنساني وبلوغه مرحلة النضج والوعي السليم.

وهذه الأساليب التي تركها العلم في العقول، حتى لو لم تكن قد اشتغلت به أو أسهمت بصورة مباشرة في تقدمه هي ذلك النوع من التفكير العلمي الذي نود هنا أن ندرسه. فبعد أن يقدم العلماء إنجازاتهم، قد لا يفهم هذه الإنجازات حق الفهم، ويشارك في استيعابها ونقدها إلا قلة ضئيلة من المتخصصين ولكن «شيئا ما» يظل باقيا من هذه الإنجازات لدى الآخرين، أعني طريقة معينة في النظر إلى الأمور، وأسلوبا خاصا في معالجة المشكلات. وهذا الأثر الباقي هو تلك «العقلية العلمية» التي يمكن أن يتصف بها الإنسان العادي، حتى لو لم يكن يعرف نظرية علمية واحدة معرفة كاملة، ولو لم يكن قد درس مقررا علميا واحدا طوال حياته.

إنها تلك العقلية المنظمة التي تسعى إلى التحرر من مخلفات عصور الجهل والخرافة، والتي أصبحت سمة مميزة للمجتمعات التي صار للعلم فيها «تراث » يترك بصماته على عقول الناس. موضوعنا إذن هو التفكير العلمي أو العقلية العلمية، بهذا المعنى الواسع، لا بمعنى تفكير العلماء وحدهم بيد أننا لن نتمكن من إلقاء الضوء على هذه الطريقة العلمية في التفكير إلا إذا ألممنا بشيء عن أسلوب تفكير العلماء، الذي انبثقت منه تلك العقلية العلمية في مجتمعاتهم. فتفكير العلماء هو مصدر الضوء، ومن هذا المصدر تنتشر الإشعاعات في مختلف الاتجاهات وتزداد خفوتا كلما تباعدت ولكنها تضيء مساحة أكبر في عقول الناس العاديين كلما كان المنبر الأصلي أشد نصاعة ولمعانا . ومن هنا كان لزاما علينا أن نعود من حين إلى آخر، إلى الطريقة التي يفكر بها مبدعو العلم، لا في تفاصيلها الفنية المتخصصة بل في مبادئها واتجاهاتها العامة، التي هي الأقوى تأثيرا في تفكير الناس العاديين.

رابط الكتاب

للحصول على نسخة 👈 اضغط هنا
Mohammed
Mohammed