مربع البحث

مهارة الإنصات

مهارة الإنصات





الإنصات مهمة ليست سهلة ولكنه أساس التواصل الفعّال به تُحَلّ المشكلات، وتتوطّد العلاقات، فعندما تنصت جيّداً في أوقات الأزمات، ستتعلّم كيف يتجاوز الناس الصراعات وتثري خبرتك في التعامل مع المشكلات. فمن خلال الإنصات تكتشف أننا جميعاً نخوض معارك متشابهة – كالبحث عن مشاعر الحب والاهتمام، والشغف، أو القلق بشأن المستقبل، ومن هنا تدرك أنك لست بمفردك؛ فتطمئن نفسك وتتقد شعلة حماسك.

ويرى عالم النفس إدجار شين في كتابه السؤال جسر الاتصال أنه عقب حوادث تحطّم الطائرات، نكتشف أن الموظفين في أسفل الهرم الإداري كانوا يعرفون معلومات كفيلة بمنـع حدوث تلك الكوارث، ولكن المعلومات لم تصل إلى الإدارة العليا، بل تجاهلها الموظفون خوفاً من مواجهة مديريهم بأخبار سلبيّة، وهو ما يعكس خللاً في حلقة التواصل بين الموظفين والمديرين العنصر المفقود هنا هو المناخ الذي يشعر فيه الموظفون بالأمان عند إخبار مديريهم بمسائل خطيرة، ويتحقق هذا المناخ إذا عرفنا كيفيّة الإنصات للمرؤوسين وإدارة حوار ثري وبناء معهم. 

إلا إن هذا الإنصات يتطلّب كثيراً من التواضع ليمنح الطرف المُرسل شعوراً بالأهميّة والاحترام والرغبة في معرفة مـا لـديـه مـن معلومات. ولكي نكون متواضعين ونسأل وننصت، بدلاً من أن نقفز إلى الاستنتاح ونتسرّع بالردّ ونسترسل في إسداء النصائح، فلا بد أن نحقق درجةً من الثّقة، بحيث يثق المتحدّث بك، ويتأكد أنك تقبله، ولا تميّز نفسك عليه، ولا تُحرجه، وأن تصدقه القول، وتهتم بمصلحته، وتدعم أهدافكما المشتركة. فالإنصات الحقيقي والفعّال يعني أن تستقبل الكلام بأذنيك وتصغي بعقلك، وتسمع بقلبك، وتتفاعل بكل جوارحك.

الإنصات يورث الحكمة

متى كانت آخر مرّة أصغيت فيها إلى أحد باهتمام حقيقي؟ من دون أن ينشغل بالك بالتفكير في الردّ المناسب، أو بتفحّص هاتفك، أو مقاطعة المتحدّث للتعبير عن رأيك فيما يقول؟ ومتى كانت آخر مرة أنصت فيها أحد لك، وكان منتبها ومستجيباً لكلّ ما تفوّهت به حتّى أشبعك اهتماماً وتفهماً؟

لا يقتصر الإنصات على الاستماع لما يجري على الألسنة فهو يتجاوز ما يقوله الآخرون، إلى كيف يقولونه، وما يفعلونه أثناء الكلام، وما سياق الكلام، وكيف يتردّد صداه بداخلك، فالإنصات ليس مجرّد التزام الصمت بينما يسترسل الآخر في حديثه، وإنما يرتبط الإنصات في مجمله باستجابتك أي درجة التعرّف إلى شعور المتحدّث وأفكاره بوضوح، وفي نفس الوقت تبلور أفكارك وشعورك تجاه ما يرويه والإنصات الصادق والمخلص يغيّر نظرتك إلى الأفراد والعالم من حولك، ويثري تجربتك ووجودك ويمنحك الحكمة فتزدهر علاقاتك المثمرة.

هل تضعف التكنولوجيا مهارات الإنصات ؟

في ظل ما نشهده من تقدم تكنولوجي أصبح التواصل الإلكتروني أكثر كفاءة، ويسمح لنا بالتفاعل أينما ووقتما وكيفما نريد مع أي عدد من الأشخاص، ونستطيع من خلاله أيضاً استقبال ردود أفعال سريعة وأحياناً فوريّة، فلماذا نهتم بتطوير مهارات الإنصات؟

الإنصات ليس مجرد نشاط ذهني أو عضوي، وإنّما نشاط نفسي وروحي يساعدك على الاندماج في الحياة، ويُعزّز فهمك لذاتك بقدر ما يُعزز فهمك للمتكلّم، فالفهم هو غاية الاستماع التي تستحق الوقت والجهد.

عندما تنصت وتفهم ما يقوله المتكلّم، تتجانس موجات أدمغتكما، فعندما تأمّل عالم الأعصاب يوري حسون فحوصات الرنين المغناطسي الوظيفي لطرفي المحادثة وجد أنّه كلّما عظم التداخل بين النشاط الدماغي للمتكلم والمستمع كان التواصل أفضل، فمنذ نعومة أظفارنا، تولد بداخلنا رغبة في تحقيق التجانس والانسجام مع الآخرين، وكلنا نتطلع إلى هذه الحالة التي من خلالها نصنع الصداقات والشراكات، وتطور الأفكار ونمتن العلاقات، وفي حال لم يُلبّ هذا الاحتياج، لا سيّما في مراحل العمر المبكرة. تتأثر سلامتنا النفسيّة والبدنية .

الإنصات أساس العلاقات

الإنصات لا يعني التعليم أو التطويع أو الانتقاد أو التقييم أو المساعدة فهو تجربة تتعايش فيها وتستمتع بها عندما تجد من يبدي اهتماماً بشخصك ويكترث لما تفعله فإذا لم نجد من يتفهّمنا ويتقبلنا قبولاً غير مشروط، تغمرنا مشاعر النقص والفراغ والانعزال عن الآخرين، فالعزلة التي تصيبنا أحياناً قلّما تنتج عن حدث مأساوي جلل بقدر ما تكون نتاجاً لمُناسبات متراكمة لم يحدث فيها أي شيء، بينما كان من الممكن أن يحدث الكثير تلك هي الفرص الضائعة التي تنقطع فيها خطوط الاتصال بسبب عدم الإنصات.

يُعرف الإنسان بعلاقاته وارتباطاته في الحياة، فكلّ علاقة لديك تضع حجراً في بناء شخصيتك وتُحدّد موقفك من الآخرين ومن الحياة، وتنشأ هذه الارتباطات في الأساس نتيجة الإنصات، بدايةً من هدهدة آبائنا لنا في الصغر لوقف صراخنا، حتى إنصات الآخرين لنا في مراحل البلوغ والعمل والزواج والحياة اليوميّة بشكل عام، فليس للكلام أي جدوى إن لم تجد من يستمع له. إذ تهتز ذواتنا لصوت المشاعر والأفكار التي تترجمها ألسنة الآخرين، فتخترقنا هذه الأصوات وتحرّكنا جسدياً وعاطفياً، ويُعلّمنا صداها كيف نفهم ونتعاطف ونُحبُّ، وهنا منشأ الارتباط بالآخرين.

لكي تُنصت بإمعان عليك أن تعـرف ما يدور بذهن الطرف الآخر، وتُعبّر عن اهتمامك بالقدر الكافي كي تكتشفه، فما نتوق إليه جميعاً أن نجد من يستوعبنا كأفراد ذوي أفكار ومشاعر ومقاصد فريدة وقيمة جديرة بالاهتمام.

كُن فضولياً كالأطفال

الفضول هو شرارة الإنصات، وكلّنا في بعض مراحل حياتنا غلبنا الفضول الفطري، فعندما كنت طفلاً، كان كلّ شيء جديداً بالنسبة لك؛ لذا كان الفضول هو ما يحرّكك تجاه الأشخاص والأشياء لاكتشافها، ويطرح الأطفال الكثير من الأسئلة في محاولة لاستكشاف العالم من حولهم، فهم ينصتون بإمعان لكلّ ما تقول، ويُردّدون أغلبه .

وأثبتت الدراسات أنّ الأطفال والبالغين الذين ينعمون بعلاقات آمنة يكونون أكثر فضولاً وانفتاحاً على المعلومات الجديدة ممن يفتقرون إلى هذه العلاقات، وهو ما يدعم نظرية التعلق فلو كان لديك من تتحدّث معه بحريّة، ويُنصت إليك باهتمام فستنشأ بينكما دائرة التواصل الفعّال، فتزداد ثقتك بنفسك وبالآخرين، وتصبح منفتحاً على العالم الخارجي، وتتفاعل مع الآخرين بسلاسة، فأنت تعلم في قرارة نفسك أنه مهما تكالبت عليك الخيبات فهناك من ينتظرك، ليخفّف عنك حمولك، وينزع عنك ،آلامك، وهو ما نسمّيه ركيزة الأمان التي تشكّل حصن الحماية من الوقوع في براثن الوحدة.

ويقصد بالفضول تجاه أفكار ومشاعر الآخرين أن تكون متلهفاً للاستماع إليهم واكتشاف وجهات نظرهم واستيعابها، انطلاقاً من اعتقادك بأنك ستستمع إلى شيء مختلف قد يفاجئك، فتتأهّب للاستفادة من التجربة بأكملها. بمعنى آخر: الفضول هو التخلّي عن الافتراضات المسبقة حول معرفتك بما سيقوله الشخص والتخلّي عن اعتقادك بأنك تعرف أفضل منه، فقناعتك بأنك تعرف مجرى الحوار مسبقاً يقتل الفضول ويشتّت الانتباه.

إن استناد الحوار إلى الأشياء المشتركة بين الطرفين يعزّز الإنصات وهو خير سبيل للتواصل وبناء العلاقة بينهما تدريجياً، فاستهل التواصل بالحديث عن شيء مثير يخص الطرف الآخر ثمّ شارك شيئاً يخصك أنت. اجعله حواراً متبادلاً بناءً، وتجنّب الأسئلة الشخصيّة التطفليّة ، مثل «ما عملك؟»، أو «أين تسكن؟»، أو «إلى أيّ مدرسة كنت تذهب؟»، أو «هل أنت متزوّج؟» لأنّها تثير حفيظة الآخرين، وتنهي التواصل قبل أن يبدأ، وتعكس انطباعاً بأنك تحاول تقييمه وليس التعرّف إليه، إذ تضع هذه النوعية من الأسئلة الآخرين في موقف دفاعي، وتُحوّل مجرى الحديث إلى ما هو أشبه بسيرة ذاتيّة مصطنعة وسطحية، أو ساحة لاستعراض العضلات وتمجيد النفس.

الافتراضات المسبقة تُبطل فاعليّة الإنصات

نميل جميعاً إلى افتراض أشياء عن الأشخاص القريبين منا والذين تربطنا بهم علاقات من الألفة والوئام، فيما يُعرَف بتحيّز الاتصال المتقارب ورغم روعة هذه العلاقات فإنّها تولّد التساهل وتدفعنا إلي المبالغة في تقييم قدرتنا على قراءة المقرّبين منّا، فعندما نشعر بوثاقة الصلة بيننا وبين شخص ما نفترض أنّ الأمر سيظلّ كذلك من دون مساس بينما الحقيقة أنّ التعاملات والأنشطة اليوميّة تشكّلنا باستمرار، وتغيّر نظرتنا إلى العالم، فنختلف اليوم عن الأمس، وغداً ربّما تتشكّل نسخ جديدة من رؤيتنا للعالم، وتتبدل الآراء والتوجهات والمعتقدات، لذا لا يهم منذ متى تعرف شخصاً ما، أو إلى أي مدى تعرفه، فإذا عزفت عن الإنصات له لوهلة فستغدو معرفتك به منقوصة وتتضاءل قدرتك على التواصل معه.

يؤدّي الإنصات لأشخاص غير مقرّبين إلى نوع مختلف من التحيزات الناتجة عن الافتراضات المغلوطة، وأشهر هذه التحيزات هو التحيز التأكيدي وتحيّز ،التوقعات وكلاهما ينبثق من رغبتنا في النظام والاتساق ولإضفاء معنى على عالمنا الكبير والمعقد، ننزع - بشكل غير واعٍ- إلى تصنيف الأشخاص في عقولنا، قبل حتّى أن ينبسوا ببنت شفة، وتتنوع التصنيفات ما بين تنميط عام متأثّر بثقافتنا وتقاليدنا، وتنميط فردي متأثر بتجاربنا الشخصيّة، وفي بعض الأحيان قد تصيب هذه التصنيفات، ولكن إذا لم نتوخ الحذر، فسيؤدّي اندفاعنا نحو التنميط والتصنيف إلى تقويض قدرتنا على الفهم وتشويه الواقع، ومتلازمة «نعم نعم فهمت قصدك» هي أكثر ما يجعلنا نتسرّع ونقفز وصولاً إلى استنتاجات حول الأشخاص من دون أن نعرف حقيقتهم.

ما يحدث أننا عندما نقابل شخصاً يتسق مع أحد تصوّراتنا الذهنية؛ فإننا نفترض أننا نعرفه جيّداً. أو على الأقل نفهم بعض جوانبه، وهذه واحدة من نزعات العقل الانعكاسية التي تصيبك بوهم الفهم، ومن هنا تخمد شعلة فضولك وشغفك بالإنصات، وهنا تبدأ - من دون أن تشعر- في الإنصات بشكل انتقائي؛ بمعنى أن تستمع فقط لما يتفق مع افتراضاتك المُسبقة.

إنّ الافتراضات المُسبقة المتعلّقة بالوحدة والتضامن على أساس العمر أو النوع أو لون البشرة أو الوضع الاقتصادي أو الدين وما شابه ذلك تقوّض قدراتنا وتُضعفنا، فأثناء إنصاتك للآخرين تطمئن لوجود قيم مشتركة وخبرات متشابهة بينكم ولكنّك في نفس الوقت، قد تقابل بعض الاختلافات التي يجب أن تتعلّم كيف تُقرّ بها وتتقبّلها، لتثري فهمك ومعرفتك، فتأثرنا بأفكار الهويّة واسعة الانتشار يثبط همّتنا، ويوهن رغبتنا في استكشاف كلّ ما يجعلنا مميّزين.

أنصت للدوافع

أثبت البحث الذي أجراه جراهام بودي أستاذ التواصل التسويقي المتكامل في جامعة ميسيسيبي أنّ المتحدث يزداد شعوره بأنه مفهوم بالنسبة للطرف الآخر إذا استجاب المستمع، لا بالإيماء أو ترديد الكلام أو إعادة صياغته؛ وإنّما بإعطاء معلومات وصفية وتقييميّة وعلى عكس الادّعاء القائل إنّ الإنصات الفعّال هو ضرب من ضروب المشاركة السلبية، فقد أثبت بودي أنّ الإنصات يستلزم قدراً من التأويل والتفاعل، فبإمكان تطبيق الذكاء الاصطناعي أن يستمع لك! ولكن التكلّم معه لن يشبع تعطّشك إلى التواصل لأنّه لن يتجاوب معك تجاوباً فكرياً أو عاطفياً وهو مقياس الإنصات الجيد.

يقول بودي: "يتطلّع الناس إلى استشعار استيعابك للدوافع الكامنة وراء سردهم لحكاياتهم، وما تعنيه بالنسبة لهم أكثر من اكتراثهم لتدقيقك وحفظك للتفاصيل"، فالأمر لا يتعلّق بخسارة صديقك لوظيفته بقدر ما يتعلق بالتبعات العاطفيّة التي خلّفها هذا الحدث، واستنباط هذا الجانب العاطفي العميق هو جوهر فن الإنصات.

غاية التواصل أن نجد من ينصت لنا باهتمام، فيستوعب أفكارنا ومشاعرنا وقيمنا ومقاصدنا الفريدة التي تشكل مساراتنا وترسم ملامح مستقبلنا.


تقمّص دور المُتحرِّي الذي يسأل دائماً: «لماذا يُخبرني هذا الشخص كلّ ذلك؟»، وتفهم حقيقة أن المتكلّم نفسه في بعض الأحيان قد لا يعرف السبب ووحده المنصت الجيد يُساعد المُتكلّم على فهم السبب من خلال طرح الأسئلة وتقدّي التفاصيل، ويمكنك أن تحكم على كفاءتك كمنصت عندما يقول لك الطرف الآخر عبارات مثل: «نعم، هذا تحديداً ما قصدته!»، أو «لقد فهمت ما أعنيه!».

أطلق كارل روجرز على هذه العملية بالاستماع النشط، ووصف روجرز نفسه بينما يمارس الاستماع النشط على النحو التالي: «أصغي إلى الكلمات والأفكار وصوت المشاعر والمعنى الظاهر والمعنى الكامن بين طيات مقاصد المتكلّم غير الواعية»، والاستماع النشط - وفقاً له – يعني أن يندمج المرء في مهمّة الاستقبال، بدلاً من تصنّع سلوكيات ظاهريّة توحى بالانتباه، والفكرة أن يتجاوز الأمر الحقائق المُجرّدة التي لا تعكس إلا جزءاً ضئيلاً ممّا يحاول المُتكلّم إرساله، ونحن غالباً لا نتحدّث بشيء إلا إن كان يعني لنا الكثير، فما يتبادر إلى أذهاننا، ويجري على ألسنتنا يهدف إلى الحصول على ردّة فعل مُرضية، وبفهم المعنى الكامن وراء الكلمات تحصل ردة الفعل المرجوّة هذه، ويتحقق التواصل وتتوطد العلاقات.

عند الانتهاء من أي محادثة اسأل نفسك ما الذي تعلّمته عن هذا الشخص ؟ ما كان أكثر ما يثير قلقه اليوم؟ كيف كان شعوره حول ما تحدّثنا عنه؟ إذا لم تجد إجابات عن هذه الأسئلة، فأنت على الأرجح تحتاج إلى تعزيز مهارات الإنصات.

لا تنشغل بتحضير الرد

يتكلّم الإنسان الطبيعي بمعدّل من 120 إلى 150 كلمة في الدقيقة الواحدة، وهو ما يشغل جزءاً ضئيلاً من السعة الذهنيّة المدعومة بما يقرب من ستة وثمانين مليار خليّة دماغية، لذا نصول ونجول في المساحة المعرفيّة الشاسعة المُتبقية وتفكّر في عشرات الأشياء في اللحظة الواحدة، ما يحول دون انتباهنا لحديث المتكلّم، فتضعف وظائف الإنصات، فعندما يتحدّث شخص معنا، نتشتت في جولات دماغية جانبية ، فنفكّر في مُهمّة ضمن جدول الأعمال، أو محادثة سابقة، أو أي شيء آخر، وأحياناً ينشغل تفكيرنا بأشياء، مثل مظهر المتكلّم أو ملابسه وما إلى ذلك.

يرى رالف نيكولز أستاذ البلاغة في جامعة منيسوتا أن الإنصات الجيّد يعني أن تستخدم السعة الذهنيّة المُتاحة في تعظيم جهدك لفهم واستشعار مـا يود الطرف الآخر أن يقوله، لا في خوض جولات ذهنيّة جانبية لا تمتّ إلى المحادثة بصلة، كما أكّد أن الإنصات الجيد مرهون بأن تسأل نفسك باستمرار ما إن كانت رسائل الأشخاص صائبة ومنطقيّة، وما دوافعهم لإخبارك بكلّ ذلك.

قد يبدو الأمر بديهياً وبسيطاً، ولكن في ظلّ غياب الوعي والنيّة والممارسة المتكرّرة، قليلون من يقدرون على فعله حتّى في أقصر المحادثات، وربّما يكون أكثر ما يعوق قدرتنا على إبقاء عقولنا علـى المسار الصحيح والتركيز على حديث الطرف الآخر هو تخوّفنا ممّا سنقوله عندما يحين دورنا في الكلام فمن السهل التخلّص من الأفكار العادية التي قد تطاردك مثل ما تحتاج إلى الحصول عليه من البقالة، بينما من الصعب أن تمنع نفسك التحضير للردّ على المتكلّم، فجميعنا نقلق حيال انتقاء الكلمات المناسبة خشية إساءة الردّ أياً كان نوع المحادثة.

وللمفارقة أننا عندما نحاول تجهيز الردّ أثناء الاستماع فإننا بذلك نضاعف فرص الردود غير اللائقة، وكلّما بالغت بالتفكير في الردود الصحيحة التي ينبغي لك قولها، غابت عن ذهنك، وأصبحت أنت أكثر قابلية لمجانبة الصواب، فالردود الصائبة تشق طريقها إليك عندما تستوعب كلّ ما تفوه به المُتكلّم ، فتوقف لوهلة إذا احتجت أن تُرتب أفكارك بعد أن ينهي المتكلّم حديثه، وعلى الرغم من أننا نخشي الصمت بقدر ما نخشى قول الأشياء الخاطئة، فإن التوقف المؤقت بعد إنهاء المتكلّم لحديثه يعمل لصالحك لأنه دليل على انتباهك وحسن إصغائك.

تقبّل الآراء المختلفة

استعان علماء الأعصاب في معهد الدماغ والإبداع بجامعة جنوب كاليفورنيا، بأشخاص ذوي مواقف سياسيّة قويّة، وفحصواباستخدام ماسح الرنين المغناطيسي الوظيفي نشاطهم الدماغي عندما تعرّضت معتقداتهم للتشكيك، وأبدت أدمغة بعضهم ردود أفعال كما لو كان يُطاردهم دبّ وبطبيعة الحال عندما نتهيّأ لاستراتيجيّة الكر والفر يشق علينا الاستماع فضلاً عن الإنصات باهتمام لأي شيء.

ولكن الأولى بنا أن ننصت لنفهم كيف توصل الآخرون إلى استنتاجاتهم هذه، وما الذي نتعلّمه منها ، سواء كانت تخالف معتقداتك الشخصيّة أو تدعمها وفي اللحظة التي تشعر فيهـا أنـك ستتجاوب بعدائية مع من يختلف معك، خذ نفساً عميقاً، واطرح عليه أسئلة، ليس لتفنيد رأيه، وإثبات خطئه؛ وإنما لتوسيع نطاق فهمك لجذور هذه الأفكار.

فنحن في الواقع لا نثق بقناعاتنا، وترسخ معتقداتنا، إلا بعد أن نقبل التشكيك فيها، فالأشخاص الواثقون لا تهزّهم وجهات النظر المعارضة، ولا يتخذون من تفنيد آراء الآخرين درعاً لحمايتهم، كما أنّ الواثقين يعزفون عن وصف الآخرين بالغباء أو الخبث في المطلق من دون أن يتقرّبوا إليهم كأفراد فجوهر الإنسان ليس محصوراً في آرائه ومواقفه السياسيّة، والمعارضة البنّاءة لا تأتي إلا بالفهم الكامل والمتعمّق لوجهات النظر الأخرى ومُبرّرات تكوينها.

الحساسية الكلامية منبع سوء الفهم

تشير الحساسية الكلامية إلى القدرة الفائقة على الاستماع وتقصي ما تدور حوله المحادثة ولا يُركّز الأفراد الذين يتمتعون بهذه الحساسية على الكلمات المنطوقة فحسب؛ وإنما على المضمون المستتر في هذه الكلمات، وما تحمله نبرة الصوت من معان، فضلاً عن قدرتهم على التمييز بين العاطفة الحقيقيّة والمزيفة، وتختزن ذاكراتهم معظم ما يقوله الآخرون، وينصتون لكلّ ما يدور في المحادثة باهتمام قد يصل إلى درجة الاستمتاع بالإنصات، ومن المعتقد أنّ الحساسية الكلاميّة تمثّل أساساً للتعاطف، ما يتطلّب من جانبك أن تستحضر المشاعر التي غلبت عليك، أو اكتسبتها في تعاملاتك السابقة لتُطبقها في المواقف اللاحقة.

وليس من الغريب أن ترتبط الحساسية الكلامية بالتعقيد المعرفي؛ بمعنى أن تكون منفتحاً على تجارب كثيرة مختلفة، وأن تتأقلم مع وجهات النظر المتعارضة، فكيف لك أن تُجيد التقاط الإشارات المتشابكة في محادثة ما لم تكن خضت هذه التجربة أكثر من مرّة مع أطياف مختلفة من الأفراد. فكلّما زاد عدد الأشخاص الذين تنصت لحديثهم، زاد استيعابك للجوانب والسلوكيات الإنسانية وتحسّن حدسك بالتبعية فالحديس مهارة إدراكية تصقلها الممارسة المرتبطة بالتعرّض لباقة متنوعة من الآراء والتوجهات والمشاعر والمعتقدات.

إنّ أكثر ما يمنعك من الفهم السليم هو عواطفك وحساسياتك الشخصيّة، وبما أنك تفسّر الأشياء في ضوء تجاربك السابقة وحالتك النفسية، فالغوص في أعماق نفسك والتعرف إلى نقاط ضعفك من أهم الأمور التي تساعدك على تحسين مهارات الإنصات لديك.

لنفترض أن أحدهم أخبرك أنّ وجهة نظرك مستحدثة، فربما تظن أنه يقصد وصفك بانك غريب الأطوار، بينما يقصد هو أنك فريد ومميّز ، هنا يساعدك اعترافك بحساسيتك على التفكير بنظرة أكثر شموليّة في مقاصد الطرف الآخر وتعزيز التفاعل فيما بينكما لتفهم مقصده ،الحقيقي، فالأمر أشبه بضبط المرآة الجانبية في سيّارتك للحدّ من النقاط العمياء، وتعميق الوعي الذاتي مرهون بالتركيز على عواطفك في أثناء المحادثة واكتشاف اللحظات التي تُقوِّض فيها مخاوفك أو حساسياتك أو ربّما رغباتك وأحلامك قدرتك على الإنصات.

أصغ لصوتك الداخلي

تتعالى الأصوات وتتداخل في رؤوسنا طوال الوقت، فتتصارع الأفكار بلا هوادة حول أشياء تافهة تارة وعميقة تارة أخرى، وتتفاوت طبيعة هذه الأصوات ما بين محفّزة أو مثبطة، مؤيّدة أو ناقدة، مُجاملة أو مُهينة ، فالنفس تُدير محادثات مع نفسها من خلال تبنّي وجهة نظر أخرى، فأحياناً تُدير جدلاً مع نفسك يحاكي بدوره حواراً دار بينك وبين والدتك أو مديرك أو قريبك أو صديقك. إذاً فالإنصات للآخرين يؤثر في نبرة وجودة حواراتنا أنفسنا وتعلّمنا التعاملات السابقة كيف نسأل ونُجيب وتعلّق بما يؤهلنا لإجراء حوار مع أنفسنا سعياً لحلّ مشكلة ما، أو إدارة معضلة أخلاقيّة، أو حتّى ابتكار أفكار جديدة.

يؤدي ذلك النوع من حديث النفس إلى ارتفاع الأداء في المهمّات المعرفيّة، سواء للأطفال أو الكبار، وتؤكّد الأبحاث أنّه كلّما زاد عدد الأشخاص الذين تنصت لهم على مدار حياتك، زادت قدرتك على دراسة الجوانب المختلفة لأي مسألة فتتضاعف معها الحلول التي يمكنك تصوّرها، أي إنّ الحوار الداخلي يصقل ويدعم التعقيد المعرفي.

ثبت أيضاً أنّ الحوارات الداخليّة الأكثر تعقيداً وتقدماً تُنتج آباء أكثر فاعليّة في تربية أبنائهم، وأشخاصاً ذوي مستوى اجتماعي واقتصادي أعلى، أمّا الأطفال الذين ينشؤون في ظروف تكون فيها فرص الإنصات محدودة، فلا تتطوّر لديهم مهارة الحوار الداخلي بنفس الدرجة، وهذا أمر عضال لأنّ الطريقة التي تتحدّث بها مع نفسك وتنصت لها تؤثر لا محالة في طريقة استماعك للآخرين. على سبيل المثال: يختلف تأويل الشخص الذي يتمتّع بصوت داخلي ناقد للذات لما يسمعه تمام الاختلاف عن ذاك الذي ينزع إلى إلقاء اللوم على الآخرين، فيقول الأوّل: «هذا كله بسببي»، أمّا الآخر فيقول: «ما حدث كان بسببهم» ، بمعنى آخر يُؤثر حوارك الداخلي في ترجمتك لما يقوله الآخرون وأحياناً يُشوّهه، وهو ما يؤثّر بالتبعية في كيفيّة تفاعلـك مع علاقاتك.

يبرهن البحث الذي أجرته أخصائية علم النفس وخبيرة التعلُّق ميريام ستيل على أنّ الأصوات التي تتردّد مراراً وتكراراً داخل رؤوسنا ما هي إلا صدى للأصوات التي سمعناها في الطفولة، وعندما ننعم بالتعلّق الآمن في الصغر، بمعنى أن يكون ذوونا مكترثين بما يكفي للإنصات لنا وتلبية احتياجاتنا ورغباتنا ، ينمو بداخلنا صوت داخلي ودود .

ويرتكز العلاج السلوكي المعرفي على تعلُّم كيفيّة التحدّث مع نفسك بشكل مختلف، إذ تستبدل الأصوات الداخلية المقوّضة التي تحاكي أباً محبطاً أو صديقاً سلبياً بأخرى تحاكي معالجاً حانياً، لتفسح الطريق أمام طرق تفكير أكثر لطفاً وانفتاحاً، الأمر الذي أثبت فاعليته في تعزيز السلامة النفسية، وفي السياق ذاته يُحقق الاستماع لفئات كثيرة من الأشخاص المنفعة ذاتها فالأصوات الكثيرة تحمل وجهات نظر متعدّدة تحقق ثراءً نفسياً ومعرفياً.

الإنصات الأناني

منذ سبعينيات القرن العشرين، طوّر تشارلز ديربر عالم الاجتماع بكلية بوسطن - شغفه بسلوكيات الأشخاص وأنماط تنافسهم على جذب الاهتمام في الأوساط الاجتماعية، ومن خلال تسجيل وتدوين ما يزيد على مائة محادثة اكتشف نوعين من الاستجابات كان أكثرهما شيوعاً تحويل الحوار؛ وفيه يصرف المستمع الأضواء عن المتكلّم ويُوجِّهها إليه، أمّا النوع الثاني والأقل شيوعاً فهو تدعيم الحوار وفيه يُفسح المستمع المجال للمتكلّم كي يسهب ويبلور أفكاره، ما يُساعده كمستمع على فهم أفضل.

وبالطبع يناصر المنصتون الجيدون نمط تدعيم المتحدث، أمّا استراتيجية التحويل، كما يرى ديربر، ما هي إلا انعكاس لنرجسية حوارية تقضي على فرص التواصل، وعادةً ما تأتي استراتيجية التحويل في هيئة عبارات تُمجّد النفس، على عكس نمط التدعيم الذي يأتي في صورة أسئلة مُوجّهة شريطة أن تكون أسئلة فضوليّة تهدف إلى استخلاص مزيد من المعلومات لا فرض رأيك الشخصي بدهاء، ومنها الأسئلة مفتوحة النهايات، مثل: «ماذا كان رد فعلك؟»، وليس «ألم يُغضبك ذلك؟»، فالهدف أولاً وأخيراً أن تفهم وجهة نظر المتكلّم، لا أن تؤثر فيها وتستدرجه لتبني وجهة نظر معيّنة، وفي هذا السياق تلعب أسئلة «ملء الفراغات دوراً محورياً، مثل: «هل تشاجرت أنت بسبب....؟»، وهذه الطريقة تمكن المتكلم من توجيه الحوار في المسار الذي يرغبه.

عندما يسعى المُستمع الرافض للمشاعر السلبية للمتحدّث إلى حلّ المشكلة أو تفسيرها بدلاً من الإصغاء للشخص المنزعج أو البائس، لكيلا ينغمس في مشاعره أكثر، ويترك له المجال للتحدث والوصول إلـى حـلّ من خلال الحوار ، وينصح في هذه الحالة بمقاومة النزعة إلى :
  • أن تخبره بأنك تعرف حقيقة شعوره.
  • أن تحاول معرفة جذور المشكلة.
  • أن تُملي عليه ما يفعله حيال المشكلة القائمة.
  • أن تستخف بما يزعجه. 
  • أن تحاول فرض تفسيرات إيجابية على الموقف وإسداء نصائح تقليديّة معتادة.
  • أن تُبدي إعجابك بقوته وصلابته.

أن تدرك المصاعب التي يمر بها شخص ما، وتنصت له وتتعاطف معه، لا يعني أنّ عليك حلّها، فالأشخاص لا يُفتِّشون بالضرورة عمّن يقدّم لهم الحلول، وإنّما فقط يريدون أن يبوحوا بمكنون صدورهم.

المنصت الجيد لا يستغرق في أفكاره ومخاوفه الشخصيّة وأحكامه السطحية وإنّما يجتهد لاكتشاف المعاني الخفية وراء كلمات المتحدّث وملاحظة التفاصيل الدقيقة غير اللفظية.

الصمت الإيجابي

تقبل الصمت والاطمئنان إلى سكون المحادثة لبعض الوقت خصلة نادرة، فقد يُفسّر الأشخاص لحظات الصمت كنوع من الرفض أو العقاب أو النبذ ، لهذا يندفعون إلى التفوه بأي شيء، أمّا الصمت الذي يبلغ خمس ثوان فهو كافٍ ليُبدِّل الأشخاص آراءهم اعتقاداً منهم بأن لحظات الصمت هذه كانت تعبيراً عن رفض وجهات نظرهم.

بالطبع هناك بعض المواقف التي يكون فيها الصمت دليلاً على الرفض كالصمت الذي يتبع مزحة فضّة أو غير لائقة، ولكن شتّان بين «الصمت بدافع التركيز» و «الصمت بدافع الاشمئزاز» تماماً مثلما أنّ هناك فرقاً بين الضحك والسخرية.

يتخلّل الصمت المحادثات العادية في معظم الوقت فقط لأنّ الطرف الآخر يتدبّر ما سيقول أو يلتقط أنفاسه قبل أن يستأنف حديثه، فالأشخاص بطبيعة الحال يتوقفون عن الحديث مؤقتاً ليُحدّدوا ما سيقولونه أو لضبط عواطفهم. 

أن تكون مُنصتاً جيداً يعني أن تحترم الوقفات ولحظات الصمت لأنّ الاندفاع إلى ملئها بشكل استباقي يُقوّض قدرة المُتكلّم على التعبير عمّا يحاول الإفصاح عنه، فقط انتظر قليلاً وامنح الطرف الآخر الفرصة للمتابعة من حيث توقف من دون أن تشلّته. لا تقاطع الصمت مثلما لا تقاطع الكلام.

متى تتوقف عن الإنصات؟

تكمن قوّة المستمع الحقيقيّة في قدرته على تقدير الجهد الذي يحتاج إلى بذله في الحوار فيعرف دوره بالتحديد، أمّا إذا قرّرت أن تسمع بأذن واحدة، لأنك لا تتفق مع الطرف الآخر، أو لأنك منشغل بذاتك، أو لاعتقادك أنك تعرف بالفعل ما سيقوله، فكلُّ هذه أمور تجعل استماعك بلا جدوى.

على الجانب الآخر، إذا كان عدم إنصاتك بسبب افتقارك إلى الطاقة الفكرية أو العاطفية للإنصات في لحظة بعينها، فهذا أمر طبيعي وأفضل تصرّف في مثل هذه المواقف الانسحاب من الحوار والعودة إليه لاحقاً عندما تكون مُهيّئاً.

في بعض الأحيان قد لا تستطيع الانسجام مع الطرف الآخر مهما حاولت وقد يُعزى ذلك إلى شيء بداخلك يمنعك من الإنصات، أو إلى أنّ الطرف الآخر لا يبحث أساساً عمّن يسمعه، ويتعمّد نصب الحواجز، أو أنّه شخص مؤذ بطبيعته، ومثل هؤلاء الأشخاص يصيبونك بالإحباط أو الحزن متى استمعت لهم، ولست مجبراً على الاستماع لشخص قاس أو مسيء لن يكون الحوار معه ذا جدوى.


قليل من الناس فصيحون بالفطرة وربّما لا يثقون بالآخرين بسهولة، ولا حتّى بأنفسهم، فيمنعهم ذلك من التحدّث بحرية، وسواء كنت تنصت لرئيسـك أو زملائك أو أصدقائك أو أحبائك أو حتى إلى غرباء، فسيظل الإفصاح عن مكنون النفس أمراً ليس هيناً ويستغرق وقتاً، لذا توقّع أن تجد البعض يحوم حول الموضوع، أو يتخفّى وراء دعابة، وربّما يتحدّث أقلّ أو أكثر ممّا ينبغي أو يتفوه بأشياء لا يقصدها من واجب المنصت الجيد في هذه الحالات أن يتريث ويُمهّد الطريق لمثل هؤلاء الأشخاص إلى أن يشعروا بالثقة والاطمئنان حتّى يبدؤوا في التعبير بحرية.
كما أنّ المنصت لا يلعب الدور السلبي أو الخامل كما يظن البعض، فالإنصات هو الدور الأقوى في عمليّة التواصل وبصقل هذه المهارة ستعرف متى يجب الصمت ومتى ينبغي الرد أو السؤال، فليس من المفترض أن يظلّ المنصت صامتاً طوال الوقت، وطريقة استجابتك هي المعيار الذي يُحدّد إلى أي مدى أنت مُنصت جيد، وما إن كنت تنصت بآذان صاغية، أم تسمع بأذن واحدة!

تعليقات




    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -