مربع البحث

خصائص التفكير العلمي

خصائص التفكير العلمي




يعد التفكير العلمي إحدى المجالات المشتركة بين العلوم التجريبية والتنظيرية يعمل على تأطير ومنهجية طريقة التعاطي مع حقائق العلوم والوصول الى نظريات تفسر الظواهر المحيطة بنا سواء كانت ظواهر ملموسة حسية أو ظواهر عقليه . ومن خصائص التفكير العلمي ما يلي :



الموضوعية

تعتبر أحد الخصائص المهمة للتفكير العلمي، وهي خاصية تغاير الذاتية. وتكون طريقة التفكير ذاتية إذا كانت تأخذ في حسبانها اعتبارات تتوقف على الذات المفكرة أو ترتبط بها، اعتبارات من قبيل المصالح أو الأهواء أو الأفكار أو التحيزات المسبقة، وتكون موضوعية حين لا تعتد بأي من تلك الاعتبارات.

موضوعية الحكم الناتج عن مثل هاتين الطريقتين في التفكير تتوقف بدورها على استقلاليته عن النزعات الذاتية. وبوجه عام لنا أن نقر وجوب أن تستقل أحكام العلم قدر الإمكان عن قائليها بحيث لا يمازجها شيء من ميولهم وأهوائهم ونزعاتهم.

لا غضاضة في أن يعنى العالم بالبحث في قضايا بعينها لأسباب ذاتية، كأن يهتم عالم ينتمي إلى إحدى الأقليات ـ يستشعر الظلم الذي يمارس ضدها - بالمشاكل الاجتماعية التي تعاني منها، أو يقيم تجارب على كيفية علاج مرض بعينه باعثه في ذلك أن أحد أبنائه مصاب به. غير أنه ليس من حقه التلاعب بالنتائج التي يخلص إليها حين يتضح له أنها لا تخدم المصالح التي يرغب في جلبها على نفسه أو على ذويه أو جماعته.

أيضًا فإن قابلية الأبحاث والتجارب العلمية لأن تكرر على أيدي بحاث آخرين أحد سبل التأكد من موضوعية طريقة التفكير التي أجريت وفقها تلك الأبحاث والتجارب، وموضوعية الأحكام التي خلصت إليها، وإن كانت تقصر عن ضمان تلك الموضوعية. من شأن التحقق المشترك من قبل المشتغلين بالمجال العلمي نفسه الجماعة العلمية التقليل من العناصر الذاتية الفردية عبر التوكيد على ما هو مشترك بين مجموعة من الأفراد. وكما يتضح بداهة، فإن الجماعة العلمية قد تتفق في الركون إلى طائفة من الاعتبارات الذاتية، لكنه يفترض أن فرصها في التقليل من تلك الاعتبارات تظل أفضل حالا.

الالتزام بمعيار الموضوعية أصعب في العلوم الإنسانية منه في العلوم الطبيعية والشكلية. ذلك أن المرء يتخذ عادة مواقف مسبقة القضايا الإنسانية التي يعرض لها، لكنه ينأى غالباً عن اتخاذها حال تعلقها بالنواميس التي تحتكم الظواهر الطبيعية. العلوم الإنسانية حافلة بالقضايا القيمية والأحكام التقديرية المسبقة التي يصعب التخلي عنها كلية وهذا يُصعّب بدوره من تحقيق مثال الموضوعية. الحال أنه ثمة من يذهب إلى استحالة تحقيق هذا المثال ويدعو إلى تبني هذه العلوم أساليب بحثية خاصة .

هناك أيضًا ما يعرف باسم الملاحظة المشحونة نظريا -Teory Observation laden . في أحيان كثيرة تتحكم أفكار المرء المسبقة فيما يلحظ من ظواهر . حيث أن ما يراه المرء يتوقف على ما ينظر إليه قدر ما يتوقف على خبراته البصرية - النظرية التي سبق له تعلمها. يصدق هذا خصوصا في العلوم الإنسانية.

تحفل أدبيات علم النفس بالتجارب التي تفيد بأن معتقدات المرء وخبراته السابقة تقوم بدور فاعل في إدراكه لما يعرض له من حوادث، بل وفي تعرفه على الأشياء التي تقع في مجاله الحسي. ثمة من يذهب إلى حد إقرار أن كل الملاحظات مشحونة، وأن فعل الإدراك لا يشكل معرفة إلا حال إعمال خبرات مسبقة، ومن ثم فإنه لا معنى للحديث عن الموضوعية في أي سياق بشري. وبطبيعة الحال، فإن الملاحظة المشحونة بأفكار مسبقة تفتقر إلى الموضوعية لأنها تقحم اعتبارات ذاتية تتعلق بالملاحظ.

في المقابل، هناك من يذهب إلى أن المتطلب في هذا السياق لا يتعين في اشتراط وجود ملاحظات محايدة نسبةً إلى أية نظرية؛ إذ ليست هناك ملاحظات من هذا النوع، بل ملاحظات محايدة نسبةً إلى طائفة بعينها من النظريات، ألا وهي النظريات التي يفترض أن تسهم تلك الملاحظات في فض النزاع القائم بينها فيما يعرف باسم "التجارب الحاسمة". قد لا تكون هناك ملاحظات مفرغة كلية من أية افتراضات نظرية، لكن الملاحظات التي لا تفترض أيا مـن النظريات المتنافسة تكفي من حيث المبدأ إلى إنجاز فعل المقارنة بينهما بكلمات أخرى، يفترض أن تكون هناك مرجعية ملاحظية مشتركة بين أية نظريتين متنافستين (بمعنى أنها لا تصادر على أي منهما) يمكن باللجوء إليها اتخاذ قرار التخلي عن إحداهما، وحتى إن صادرت هذه المرجعية على نظريات أخرى.

وأخيرا، نشير إلى وجود علاقة بين مطلب الموضوعية والغايات التي يستهدفها العلم ونهجه في تحقيقها. أسلفنا أن العلم يروم أساسا تفسير الظواهر التي يقوم العلماء برصدها، عبر البحث في أسبابها وطرح فروض تعين على فهمها. يفترض أيضًا أن يقوم العلماء برصد الشواهد التي تُرجّح صدق فروضهم، فهذا أمر يقره المنهج العلمي. غير أن الارتكان إلى اعتبارات ذاتية إنما يشكك في صحة ما يتم الخلاص إليه من فروض، فبقدر ما تؤثر تلك الاعتبارات في طريقة إجراء الباحث لأبحاثه، تهن قدرة شواهده على ترجيح صدق فروضه 

الاختبارية

ليست القضايا العلمية بالقضايا الشخصية الخاصة بصاحبها وحده، بل يتعين أن تكون قابلة للتحقق المشترك. هذا أمر لازم عن موضوعية العلم. خاصية الاختبارية إنما تشير إلى وجوب إنجاز فعل التحقق، غير أن طبيعة هذا الفعل إنما تتوقف على طبيعة العلم المعني، بل إنها تتوقف حتى على الأهداف المراد تحقيقها من البحث في المشكلة موضع الاهتمام. هكذا تعد مبادئ المنطق وقواعد الاستنباط الحكم الفيصل في علمية القضايا الرياضية، فيما تعد أساليب الضبط الإمبيريقية وسائل ملائمة لعلمية قضايا العلوم الطبيعية.

التوكيد بشكل منفصل على خاصية الاختبارية، رغم أنها مجرد تجل من تجليات الموضوعية، ليس سوى توكيد على وجوب ألا يركن العالم إلى أية قدرات ذاتية، كأن يعول على ذوق أو لقانة أو حاسة سادسة أو غير ذلك مما يزعم في أبواب معرفية أخرى (التصوف وقراءة الغيب مثلا) . قد يكون لمثل هذه القدرات دورها في مختلف أنواع الفنون، لكنها لا تقوم بدور فاعل في العلم، إذا ما استثنينا عملية اكتشاف الفروض وهي عملية غير قابلة، فيما يبدو للتقنين.

التحقق من صحة الفروض عبر اختبارها إمبيريقيا (بالملاحظة والتجربة) إنما تشكل العلامة الفارقة للعلوم الطبيعية. ثمة من يذهب إلى حد إقرار أن قابلية الحكم لمثل هذا الاختبار إنما تشكل معيار استحواذه على معنى القضايا التي تشتمل على مفاهيم غير قابلة للتحقق الإمبيريقي، وفق ما تقر النزعة الوضعية المنطقية قضايا يعوزها المعنى بقدر ما تعوزها القيمة. ولأن العلم هو النشاط البشري الوحيد المعني خصوصا باختبار فروضه والتحقق منها إمبيريقيا، فإنه يُشكّل عند أشياع تلك النزعة النشاط المعرفي المشروع الوحيد.

غير أن سبل سائر العلوم في اختبار فروضها قد تختلف عن الأسلوب الإمبيريقي. مثال ذلك: تعتمد العلوم الرياضية أساليب استنباطية عقلية في اختبار فروضها، حيث يشترط أن تتم البرهنة على أية مبرهنة عبر اشتقاقها استنباطيًا من مجموعة من القضايا، قد تكون مبررة بدورها عبر مجموعة أخرى من القضايا. غير أن عملية الاشتقاق هذه لا تتم إلى غير نهاية؛ إذ يفترض أن تكون هناك مبادئ يصادر على صحتها دون برهنة، وهذا ما يُعرف باسم مصادرات الأنساق الرياضية.

التعميم

وكما أن الموضوعية أعسر على التطبيق في حال العلوم الإنسانية منها في حال العلوم الطبيعية، فإن التعميم في حال البشر أعسر منه في حال الظواهر غير البشرية . الفروق التي تميز بين البشر تفوق بكثير تلك التي تميز بين مختلف أنواع الجمادات وسائر الكائنات الحية. للبشر حرية إرادة تميزهم عن سائر الكائنات، وهذا هو مأتى صعوبة التعميم في سياق العلوم الإنسانية والاجتماعية. وبوجه عام، تتفاوت العلوم في درجة تحقيقها لمثال الشمولية وقدرتها على التعميم، حيث نجد مثلا أن العلوم الفيزيائية أكثر قدرة على التعميم من العلوم البيولوجية، وأن العلوم البيولوجية أقدر على التعميم من العلوم الاجتماعية.

ولأن العلم يستهدف صياغة فروض قادرة على التفسير، الذي يعين بدوره على الفهم، ولأن الفهم يظل عاصيا في غياب عملية التعميم، فإن التعميم مطلب مهم، وخاصية أساسية من خصائص التفكير العلمي. خاصية التعميم إنما تجسد قدرات العلم التجريدية، وعنايته الخاصة باستنباط الاتفاقات المشتركة بين الظواهر على حساب تفاصيلها وخصوصياتها والاختلافات القائمة بينها الحال أننا قد نلتمس في هذه العناية معيارا للتمييز بين العلم واللاعلم. ذلك أن إدراك الإنسان الجزئية واحدة محددة المكان والزمان هو معرفة لهذه الجزئية وليست علما؛ لأن العلم قوامه اطرادات في الحدوث نصوغها في قوانين عامة نستعين بها على التنبؤ بما عساه أن يقع إذا وقعت ظروف معينه .

تابع القراءة في الصفحة الثانية
وبالطبع، فإن التعميم لا يُرام لذاته، بل يتعين أن يكون حصيلة شواهد و قرائن واستقراءات تجعل الخلاص إليه مبررًا. فضلا عن ذلك، يفترض أن تكون للفروض الأكثر عمومية أولوية على الفروض أقل عمومية، بل إنه بالمقدور إقامة علاقة بين قدر شمولية الفرض وقدرته على التعليل، فكلما كان الفرض أكثر عمومية، كان أكثر قدرة على تفسير الظواهر . هذا على وجه الضبط مبرر حظوة نظرية نيوتن في الجاذبية بالاهتمام مقارنة بقوانين كوبرنيكس وجاليليو وكبلر. لقد كان في وسع نظرية نيوتن انتظام خليط هائل بل مشوش من الفروض وإدراجه في إطار عدد محدود من القوانين.

أيضًا، هناك من يمجد النظريات الأكثر شمولية لكونها تتحدى الوقائع، فيما تقنع النظريات الأقل شمولية بأقل من ذلك، وتبدي استعدادًا أكبر لاستيعاب الحالات المناوئة. لتوضيح ذلك، قارن بين الفرض الكلي الذي يقر أن كل الكواكب تدور في أفلاك بيضاوية، والفرض الجزئي الذي يقر أن بعض الكواكب يدور في أفلاك بيضاوية بيّن أن كوكبًا واحد لا يدور في فلك بيضاوي كفيل بدحض الأول، وأن أي عدد من الكواكب مهما كان كبيرا، لا يدور في مثل هذا الفلك عاجز عن دحض الفرض الثاني للأول أولوية على الثاني؛ لأنه يتحدى الوقائع، في حين أن الثاني قادر على التكيف مع أية وقائع يبدو أنها لا تتسق معه. ب ين أيضًا أن عدد الظواهر التي يتسنى للفرض الأكثر شمولية تفسيرها يفوق بكثير عدد الظواهر التي يتسنى للفرض الأقل شمولية تفسيرها، وهذا بالضبط ما يجعل من التعميم خاصية من خصائص التفكير العلمي.

الظنية

أحكام العلم تظل باستمرار مؤقتة وقابلة من حيث المبدأ للتعديل المستمر. هذا أساسا إلى أن شواهد العلماء على فروضهم شواهد جزئية لا تستنفد محتوى تلك الفروض ليست هناك إثباتات في العلوم الطبيعية والإنسانية، بل براهين استقرائية تعجز مقدماتها عن ضمان صدق نتائجها الراهن أن كلمة فرض بالإنجليزية hypothesis مكونة من مقطعين: "hypo" التي تعني "أقل من" أو "أقل جدارة بالثقة من" ، و "thesis" التي تعني "أطروحة ". 

يقر الفرض العلمي، في أبسط صياغته، علاقة بين خاصيتين، وبحكم التزام النشاط العلمي بمعيار التعميم، فإن الفرض لا يعنى بأفراد دون غيرهم، بل يعنى بكل فرد يختص بإحدى الخاصيتين، ويقر اختصاصه بالأخرى. غير أن شواهد العلماء على قيام هذه العلاقة إنما تركن إلى أفراد ،بعينهم اتضح اختصاصهم بالخاصيتين المعنيتين، ولذا فإن شواهد العلماء عاجزة دومًا عن ضمان صدق فروضهم، وهذا هو سر الظنية التي تكتنف أحكامهم.

يمكن تعزيز ما سلف ذكره من أحكام عبر تحليل مفهـوم العلاقة العلية أو السببية Causal relation كون العلم يستهدف تفسير الظواهر إنما يعني أنه يحاول رصد علاقات علية بين الظواهر التي تشكل موضع عنايته. ولكن ما معنى أن تقوم علاقة سببية بين ظاهرتين؟

يقر ديفيد هيوم أن قيام مثل هذه العلاقة يشترط وجود أسبقية زمنية لإحدى الظاهرتين على الأخرى، واقتران مكاني بينهما، فضلًا عن علاقة ضرورية تربطها بكلمات أخرى، لا تكون س سببا لـ ص إلا إذا توفرت ثلاثة شروط: 
  1. حدوث س قبل ص زمنياً
  2. تجاور س مع ص مكانيًا
  3. قيام علاقة ارتباط ضرورية بين س و ص.
غير أن الشرطين الأولين غير كافيين. فقد تسبق الظاهرة س الظاهرة ص، وتتجاور مكانيًا معها، دون أن تكون علة لها. الليل سابق النهار، في أية بقعة على وجه الأرض، لكن الليل ليس علة النهار ، بل كلاهما معلول بدوران الأرض حول محورها. الحال أن الاعتقاد في كفاية ذلك الشرطين هو المسؤول عن كثير من المعتقدات الخرافية المتعلقة بعمليات التشاؤم والتفاؤل. حين يرى المرء قطة سوداء، ثم يصاب بمكروه، فإنه يعتقد أن رؤيته إياها هي علة ما لحقه من ضرر. ولكن بالرغم من أن رؤيته القطة سبق ما لحقه من ضرر، وتجاور معه، أي بالرغم من توفر شرطين من شروط قيام علاقة علية ، فإنه ليست علاقة ضرورية بين الحدثين.

 وفي حين أنه قد يكون بالمقدور دوما إقرار أن ظاهرة ما حدثت زمانيًا قبل أخرى، وأن المسافة بينهما ليست شاسعة، فإنه لا سبيل لإقرار وجود ارتباط ضروري بين أي ظاهرتين. لقد عبّر الإمام أبو حامد الغزالي عن هذا بقوله: "إن الملاحظة تدل على الحصول عندها ولا تدل على الحصول بها". هذا يعني أنه بالمقدور جمع شواهد تثبت أسبقية ظاهرة على أخرى كما تثبت تجاورهما مكانيًّا، إلا أنه لا سبيل لإثبات أن الثانية حصلت بسبب الأولى.

يبقى أن نشير إلى أن ظنية الأحكام العلمية تفسر بدورها مـا يطرأ على الفروض العلمية من تغيرات مستمرة. العلم لا يثبت على حال؛ لأن أدلته على صدق فروضه تضعف وتقوى وفق ما يستجد من معطيات. 

التراكمية

تعد التراكمية عند أشياع مذهب الوضعية المنطقية Logical Positivism معلمة فارقة تميز النشاط العلمي عن سائر الأنشطة التي غير البشر على ممارستها . إن العالم في أي مجال بحثي إنما يعول غالبًا على ما كان انتهى إليه أسلافه من نتائج، بحيث يعمل على تطويرها، أو تعزيزها بالمزيد من الشواهد، أو التشكيك فيها بغية إحلال بديل يعدل فيها . 

مفاد الحكم بأن العلم نشاط تراكمي هو أن إسهامات العلماء في أية مرحلة من مراحل تطور مجالاتهم تشكل إضافات إلى سابقاتها. أيضًا فإنه يعني أن الصدع القائم بين القوانين العلمية والقوانين الطبيعية يضيق تدريجياً على نحو يجعلنا نأمل في رأبه. في المقابل، يدأب كثير من الفلاسفة، خصوصا من يضع بصمات واضحة في تاريخ الفكر الإنساني، على إنكار ما كان انتهى إليه أسلافهم، محاولين تكريس رؤى مغايرة كلية. وكذا شأن الفنانين الذين يروق لهم فعل التجديد والتمرد على أعمال سابقيهم.

يرتبط مطلب التراكمية عند كثير من علماء المناهج بالتطور الذي يحرزه العلم في سعيه الدائم والمتواصل شطر فهم العالم. الحال أن بعضًا منهم يكرس أهمية هذا المطلب عبر الدعوة إلى وحدة العلم unity of science التي تتعين في رد مختلف العلوم إلى أصول فيزيقية صرفة، بحيث يرد علم النفس مثلا إلى الكيمياء والأحياء، ويرد هذان العلمان بدورهما إلى القوانين الميكانيكية والفيزيائية التي تحكم العالم وتعنى العلوم الفيزيائية برصدها.

التكميم

إعادة صياغة الفروض العلمية بحيث يتم التعبير عنها في شكل معادلات رياضية خاصية من خصائص الطريقة العلمية في التفكير فضلا عن كونه سمة من سمات التطور الذي يحرزه العلم في المجال المعني ذلك أن القدرة على التعبير على ذلك النحو عن الفروض العلمية إنما يعكس قدر الضبط والدقة والإحكام التي تمت بها عمليات الرصد والتحقق التي يشترطها المنهج العلمي. أيضًا، فإن اقتدار المجال العلمي على تحقيق مثال التكميم إنما يرتبط بطور نموه فكلما كان المجال أكثر نضجا سهل عليه التعبير عن فروضه في شكل رموز ومعادلات.

وبطبيعة الحال فإن الاقتدار على إنجاز مثل هذه المهمة إنما يعني الاقتدار على الخلاص من المفاهيم النوعية والاستعاضة عنها بمفاهيم كمية قابلة للقياس لا تثير أي لبس ولا تسمح بتعدد التأويلات. هكذا يتحدث علماء مناهج البحث عن رد المعطيات إلى لغة الرياضيات أو ما يسمى «بترييض العلم» Mathematization of science

ولأنه يصعب غالبًا ضبط السلوكيات الإنسانية والتنبؤ بمستقبلها، الأمر الذي يرجع إلى حرية إرادة البشر وتعقد الظواهر البشرية، فإن قدرة العلوم الإنسانية والاجتماعية على تحقيق معيار التكميم أضعف بكثير من قدرة العلوم الطبيعية. الحال أن مثال عن التكميم لا يتحقق في أي علم قدر ما يتحقق في العلوم الصورية أو الشكلية التي تتخذ من الرموز والمعادلات وسيلة في التعبير عن مبادئها ومسلماتها ومبرهناتها.

البساطة

البساطة مفهوم غاية في التعقيد. آية ذلك أن كثيرًا من التحليلات التي طرحها المفكرون لتعريف هذا المفهوم تواجه صعوبات تحول دون الإجماع عليها. إننا لا نستطيع مثلا أن نقر أن الأبسط هو الأسهل على الفهم؛ لأن قدرات البشر على الفهم تختلف باختلافهم أيضًا فإننا لا نستطيع تبني التعريف الذي يقول إن الأبسط هو الذي يتضمن عددًا أقل من المفاهيم، فقد يكون الفرض بسيطًا رغم كثرة مفاهيمه، وقد يكون صعبا على قلتها. هناك أيضًا إشكالية تبرير جعل البساطة ميزة تحمد للفرض. قد يقال إن الفرض الأبسط أفضل من الفرض الأقل بساطة لأن الطبيعة بسيطة، ومن ثم فإن فرصه في أن يحاكيها أي في أن يكون فرضًا صادقًا أفضل من فرص منافسه الأقل بساطة. غير أنه لا دليل لدينا أصلا على بساطة ،الطبيعة، بل إننا لن نعرف أنها كذلك إلا بعد التعرف على الفروض الصادقة التي تعكس واقعها، وما إن نعرف تلك الفروض حتى يفقد معيار البساطة جدواه.

و مهما يكن من أمر تحليل هذا المفهوم، يفترض بداهة أن الفرض الأبسط، حال تكافؤ الأدلة، أفضل من الفرض الأقل بساطة، أقله لأنه أيسر على التناول والاستخدام. إذا اتفقنا على أن الأقل بساطة أعسر على الفهم، وإذا افترضنا أن غاية العلم هي فهم العالم عبر تفسير ظواهره، وأنه يصعب فهم العالم إذا كانت أدواتنا في فهمه معقدة، سوف نتفق على أن البساطة منقبة مهمة. غير أنه يتوجب في جميع الأحوال أن نؤكد على أن اللجوء إلى معيار البساطة لا يكون مبررا إلا حال تكافؤ الأدلة. إذا كانت الشواهد التي تدلل على صحة الفرض س أقوى من تلك التي تدلل على صحة الفرض ص، فإن كون ص أبسط من س لا يعني شيئًا.

وغني عن البيان أن معيار البساطة يتنزل في العلوم الشكلية منزلة أكثر أهمية منه في العلوم الطبيعية والإنسانية، كما أنه أكثر وضوحًا فيها. إن تلك العلوم معنية أساسًا بتشكيل أنساق شكلية تركن إلى مجموعة من المبادئ والتعاريف والمصادرات بغرض اشتقاق مجموعة من المبرهنات يشترط في مثل هذه الأنساق أن تكون لغتها الرمزية بسيطة، وهذا يعني اشتمالها على الحد الأدنـي الممكن من المفردات والقواعد التركيبية (أي القواعد التي تمكّن من صياغة تعبيرات أكثر تركيبا من تلك المفردات).

يشترط أيضًا أن تكون قواعد النسق الاشتقاقية التي تحكم عمليات الاستدلال بسيطة بمعنى أن يكون عددها قليلا قدر الإمكان، وكذا شأن عدد مبادئها ومصادراتها. الالتزام بمثل هذه التوجيهات أيسر في العلوم الشكلية منه في العلوم الطبيعية والإنسانية لأن الأنساق التي تحقق وظائف هذه العلوم كينونات يختلقها البشر، وبمقدورهم التحكم في طبيعتها وبناها. أما تحقيق مطلب البساطة في سياق سائر العلوم فأمر أكثر عسرا؛ لأن هذه العلوم تتعامل مع واقع ليس من اختلاق البشر، ودورهم في تشكیله قد يكون منعدما .

وأخيرا، نشير إلى أن هناك من ينكر كلية أهمية معيار البساطة وينكر من ثم وجوب اختصاص التفكير العلمي بها، وذلك السببين ذاتية هذا المعيار، كونه يركن إلى اعتبارات يختلف فيها الأفراد، وعدم توفر المناسبة التي تستدعي الركون إليها (مناسبة وجود فروض تتكافأ الأدلة على صدقها).
تعليقات




    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -