مصدر السعادة في الدماغ البشري
الدماغ ومعنى السعادة
قد يكون السعي لتحقيق السعادة أهم ضالة يسعى لها بنو البشر. والسعادة نفسها مفهوم مركب يتسم بحمولة ذاتية لدى كل شخص بعينه. فهي في الواقع مفهوم تتداخل فيه مفاهيم المتعة، والرضا والطمأنينة والفرح، والقناعة، واللذة، والسكينة، وغيرها من المفاهيم التي قد تقترب كثيراً أو قليلاً من مفهوم السعادة.وصناعة السعادة كانت وما تزال موضوعاً مثيراً للاهتمام وعنواناً عريضاً لاجتهاد الكثيرين لمحاولة إيجاد تعريف جامع مانع لمعنى السعادة وكيفية الوصول إليها. ومن الناحية العلمية فإن كشوفات آليات عمل الدماغ البشري لم تتمكن سوى في العقدين الأخيرين من تلمس الآليات الفيزيولوجية التي تنظم فيزيولوجيا السعادة في الدماغ البشري، وإحساس الشخص بذلك الشعور الفريد الذي قد يختلف بين شخص وآخر.
ويتحكم بالشعور بالسعادة جزء تشريحي في الدماغ يتألف من عدة نويات في الجهاز الحوفي Limbic System مسؤولة عن إفراز ناقل عصبي خاص يتحكم في الدافع للسعي لكل ما قد يحقق شعور السعادة (Wanting) وهو الدوبامين، وعدة نويات أخرى مسؤولة عن إفراز عدة نواقل عصبية من فئة المواد الأفيونية Opiates التي يفرزها الدماغ بشكل طبيعي وهي أقرب في بنيتها الكيميائية للمخدر الصناعي الهيروين، والتي هي مسؤولة في الأساس عن تسكين الألم الذي يعانيه الشخص بشكليه الجسدي والمعنوي اللذين لهما نفس التأثير الفيزيولوجي في الدماغ؛ بالإضافة لنواقل عصبية أخرى من فئة القنبيات الداخلية المصدر Endocannabinoids (نسبة إلى نبات القنب الهندي والمعروف شيوعاً بالحشيش)، وهي نواقل عصبية يفرزها الدماغ بشكل طبيعي تشبه بشكل كبير المادة الكيميائية الفعالة في الحشيش والتي تؤدي لحدوث التأثير الشبقي (Liking) متمثلاً بالسعادة والبهجة والحبور عند استهلاك الحشيش تدخينا أو بطرائق أخرى كالمضغ أو غيرها.
وفي الواقع جهاز السعادة الفيزيولوجي في الدماغ مبرمج أساساً لتحفيز الفرد للقيام بثلاثة فعاليات :
- السعي الدائم والتوق (Wanting) للبحث عن أي ما قد يقود إلى تسكين الألم الداخلي أو الشعور بالبهجة والمتعة وهو حافز يشرف عليه الناقل العصبي الدوبامين في الدماغ.
- التثمين الفيزيولوجي والتمنع (Liking) بكل مؤثر خارجي أو داخلي المنشأ قد يؤدي إلى إفراز النواقل العصبية من فئة الأفيونات الداخلية التي يفرزها الدماغ بنفسه وتؤدي إلى تسكين الألم الجسدي أو المعنوي الذي يعاني منه الشخص.
- التثمين الفيزيولوجي والتمتع (Liking) بكل مؤثر داخلي أو خارجي المنشأ قد يؤدي إلى إفراز النواقل العصبية من فئة القنبيات الداخلية المنشأ وهي المسؤولة عن ذلك الإحساس الذاتي بالبهجة والفرح والحبور
وذلك التوصيف للمرتكزات الثلاثية الأساسية لعمل جهاز السعادة في الدماغ يومي لنا بالآليات المسؤولة عن حدوث الإدمان في عصر التفتق في تصنيع المخدرات الصناعية، ووسائل التواصل الاجتماعي الشيطانية التي تستغل نقاط الضعف في جهاز السعادة بشكل خبيث ولئيم يذهب بحيوات مئات الملايين من البشر، ويدمر الكثير من العوائل والمجتمعات كما النار في الهشيم.
جهاز السعادة الدماغي والحياة اليومية للإنسان
فيما يتعلق بالسعادة في صيرورة حياة الإنسان اليومية يقسم علماء فيزيولوجيا الدماغ مصادر السعادة إلى ثلاث مجموعات :- ظروف الحياة الموضوعية
- الاستعداد الوراثي للشخص
- منظار الشخص الموضوعي نظرياً وسلوكياً لمعنى السعادة في حياته.
ظروف الحياة الموضوعية
تثبت الدراسات العلمية بأن ظروف حياة الشخص الموضوعية من قبيل وضعه المهني ووضعه المالي، ومظهره الجسدي الفيزيائي والجمالي، تسهم فيما لا يتجاوز 10% من المؤثرات التي تسهم في تشكيل الإحساس الموضوعي بالسعادة لدى الفرد على العكس من التصور السائد حول القيمة المبالغ بها لأهمية تلك الظروف في تحقيق سعادة أي فرد.ويعتقد الكثير من البشر بأن مراكمتهم للثروة المادية والمالية مقترن مع زيادة سعادتهم. وهو اعتقاد خاطئ كما تشير كل الأبحاث العلمية، حيث أن هناك حداً أساسياً من الأمان المادي المطلوب متمثلاً بمستوى من الدخل المادي يؤمن الحاجات الأساسية للإنسان من مأكل ومشرب ومسكن كريمين يختلف من بلد إلى بلد، توفر على الشخص معاناة ضغوط وصعوبات الجهاد للبقاء على قيد الحياة في حال كان من المفقرين المظلومين .
ولكن الحقيقة العلمية تكمن في أن أي دخل يزيد عن ذلك الدخل المادي الأساسي المطلوب لتحقيق مستوى من الحياة الكريمة لا يستطيع تحقيق أي زيادة فعلية في مستوى السعادة لدى صاحبه على المستوى البعيد، وذلك لا يعني أن زيادة في راتب الشخص لا تجعله سعيداً، وإنما تعني بأن السعادة المرافقة لتلك الزيادة هي مؤقتة ومحدودة زمنياً، ولا تؤدي إلى زيادة مستمرة وثابتة على الأمد البعيد في حال كانت الزيادة لا تصب في خانة الدخل المادي الأساسي المطلوب لتحقيق حياة كريمة.
وكذلك كثير من الأشخاص يعتقدون أن تمتعهم بمظهر خارجي جمالي أعلى سوف يجعلهم أكثر سعادة، وهو السبب في مئات الملايين من عمليات التجميل والجراحات التصنيعية التي هي في الحد الأدنى مضيعة لمال صاحبها، إن لم يكن مكترثاً بالأضرار والمخاطر الجانبية الصحية المترافقة مع معظمها، والتي أثبتت الدراسات العلمية أن السعادة الناجمة عنها أيضاً سعادة مؤقتة ولا تدوم على
الأمد البعيد
والسبب الذي يفسر عدم دوام السعادة الناجمة عن المكتسبات المادية و مراكمة الثروة وحتى عمليات التجميل تكمن في الظاهرة العلمية التي تدعى التكيف الاستمتاعي في الدماغ Hedonic Adaptation والذي يعمل بشكل مشابه لما يحصل لأي مستهلك للمواد المخدرة الصنعية حينما يتعود على الجرعة التي يستهلكها ويصبح بحاجة إلى المزيد منها لأجل الوصول إلى نفس المستوى من الاستمتاع الذي كان يصل إليه سابقاً بجرعة أقل، وهو الذي يحدث بشكل أقل دراماتيكية في الدماغ متمثلاً بالاعتياد على المؤثر الخارجي الذي أدى إلى الشعور بالاستمتاع (Liking) وهو ما يستدعي البحث عن مؤثر خارجي آخر غير ذلك الذي تم الاعتياد عليه لأجل تحقيق المتعة والبهجة من جديد
ولذلك التوصيف الأخير أهمية استثنائية تعني أن البشر بحاجة إلى استمرار التعرض لمؤثرات مختلفة ومتنوعة لا بد أن يسعوا للحصول عليها سواء من محيطهم الاجتماعي أو داخلياً عبر الأفكار التي ينتجونها والسلوكات التي يقومون بها لضمان دوام شعورهم بالسعادة.
البنية الوراثية للدماغ ومستوى سعادة الفرد
قد يكون من المستغرب الإشارة إلى أن 50% من مستوى سعادة الفرد يعود إلى البنية الوراثية التي ورثها من والديه وأسلافه والتي تحكم شكل وآليات عمل بعض البنى التشريحية في الدماغ المرتبطة بجهاز السعادة في الدماغ، وينتج عنها إما دماغ باستعداد أكثر لمقارية الحياة بشكل إيجابي والنظر إلى نصف الكأس الملآن بدل الفارغ منه، أو دماغاً ذي بنية تشريحية ووظيفة تؤهب صاحبه للوقوع ضحية المقاربة السلبية للحياة ومعطياتها متشائماً والغرق في نصف الكأس الفارغ.وهو ما يفسر أن هناك أشخاصاً مرحين مبتهجين بشكل طبيعي وأشخاصاً محزونين متشائمين حتى لو لم تكن الظروف الموضوعية تستدعي ذلك المستوى من الكمد والأسى، وهو موضوع يجب تقبله كجزء فريد من شخصية كل إنسان كما لو أنه بصمات أصابعه ولون قزحية عينيه، قد يصعب عليه تجاوزه لكونه جزءاً بنيوياً من تشريح وآليات عمل دماغه.
المنظار الفكري والسلوكي للشخص
كما أشرنا آنفاً فإن هناك نسبة 10% من مستوى السعادة تعود إلى الظروف الموضوعية لحياة الشخص، و50% تعود إلى البنية الوراثية التشريحية الوظيفية الجهاز السعادة في دماغه، وهو ما يبقي 40% تعزى إلى الطريقة والنهج الذي يتبعه الشخص في تفكيره ومنظاره للحياة وفي آليات تفاعله وتأثره مع محيطه البيئي والاجتماعي والتي قد تمثل الجزء الذي يستطيع الشخص من خلاله تحقيق كل السعادة التي يصبو إليها والحفاظ على ديمومتها. وهو ما ينجح فيه كل الأشخاص السعداء في حياتهم والذي قد يكون من المنطقي اتباع حذوهم للوصول إلى نفس النتائج.وقد يكون السر في سعادة أكثر السعداء من بني البشر كامن في تعريفهم المبسط للسعادة بشكل لا تشغل فيه المتع الآنية والحسية العابرة المقام الأول بل شعور عميق بالسكينة والطمأنينة والرضا النفسي يدعى باللغة الإنجليزية Subjective well-being ،الترجمة الأدق له هي "السكينة الذاتية" .
وبالتنقيب أكثر عن سر سعادة أكثر السعداء يمكن تلمس ما يدعى باللغة الإنجليزية «Eudaemonia» وهي أصلاً كلمة يونانية، وتعني تحقيق السعادة عبر إيجاد معنى وهدف أو جملة أهداف للشخص من وجوده في حياته، وهو ما يستدعي من الإنسان التفكر ملياً والاجتهاد للبحث عما يشعره بالسعادة حقاً عقلياً وحسياً ووجدانياً، ومحاولة تبئير هدفه أو جملة أهدافه في الحياة التي يعتقد بأن تحققها متواز مع شعوره بالسعادة حتى لو كانت مغرقة في البساطة.
وتجدر الإشارة إلى أن أكثر الناس سعادة يشيرون إلى أن مصدر سعادتهم هو إحساسهم بالتواصل المستمر مع من حولهم أسرة أو مجتمعاً وإحساسهم بقيمة مساهمتهم في تحقيق سعادة أولئك الذين يتواصلون معهم بشكل مستمر. وعنصر التواصل المستمر هنا مع المحيط الاجتماعي ذو أهمية مطلقة هي أنه يلتقي مع شرط تعدد وتباين وتجدد المثيرات الخارجية والداخلية التي تسهم في تحقيق السعادة ودوامها.
وفي الواقع ليس هناك أكثر من الاحتمالات اللامتناهية لسيناريوهات علاقات وتواصل البشر إيجابياً فيما بينهم في الأسرة والمجتمع حديثاً وفعلاً وتواصلاً حميمياً وتشاركاً في السراء الضراء يتخذ كل يوم شكلا ولوناً ومستوى جديداً يمنحه الفرادة ويجعله عصياً على فقدان تأثيره الإيجابي عبر ما أشرنا إليه آنها بصدد «الاعتياد الاستمتاعي».
ومن ناحية علمية وعملية فإن ذلك التمتع الذي يتحقق في الجهاز العصبي المركزي عبر النواقل العصبية من فئة القنبيات الداخلية الإفراز أو الأفيونات الداخلية الإفراز والتي تعمل أيضاً على تخفيف الآلام بأشكالها الجسدية والمعنوية، والذي يقود الكثير من البشر إلى الوقوع ضحية الإدمان على الأدوية الصنعية التي تزيد من تركيز تلك المواد في الدماغ عبر إدخالها إلى الجسد من الخارج بأي طريق كان أو حتى الإدمان على المقامرة، أو مشاهدة المشاهد الخلاعية، أو الكحول أو التدخين وأخطرها وأكثرها هي الإدمان على متابعة وسائل التواصل الاجتماعي الخبيثة في استغلال نقاط ضعف الإنسان البيولوجية والنفسية عبر زيادتها لتركيز تلك النواقل العصبية في الدماغ بطرق غير طبيعية من اختراع البشر، يمكن الوصول إليه بشكل طبيعي في دماغ أي إنسان عند معانقته المرهفة المخلصة العطوفة لأي من أحبابه .
إذ أن البشر المعاصرين حبيسي شروط ومفاعيل المدنية جنس محروم من نعمة العناق الطبيعية، والتي تتنعم بها كل الأجناس الحيوانية الأخرى من الثدييات بامتياز، و تمثل مدخلها شبه الوحيد لتسكين الآلام التي تعاني منها جسدياً أو دماغياً جراء احتجاز الإنسان لها في أقفاص أو ما كان على شاكلتها. و هو ما يمكن الوصول إليه بشكل طبيعي أيضاً عند النهل من النبع الفياض لتلك النواقل العصبية في أدمغة البشر عند انخراطهم في أي تواصل إيجابي مع محيطهم الاجتماعي، وخاصة عبر أي نموذج من السلوك الإيثاري الغيري مهما كان متواضعاً في قيمته، و هو النبع الكفيل بإفراز مؤونة كافية ووافية من الدوبامين والأفيونات والقنبيات الداخلية في دماغ الإنسان تكفيه للوصول إلى تلك السكينة والطمأنينة والرضا النفسي والسعادة الحقيقية التي يصبو إليها، دون الوقوع ضحية للإدمان، بالإضافة إلى تزويده بأدوات الصمود ومكابدة كل أشكال الشدة النفسية وحتى الكثير من الآلام الجسدية.
وكل الحقائق العلمية السالفة الذكر تشي بأن نبع السعادة التي كانت وستظل ضالة كل بني البشر كامن أساساً في أدمغتهم ووجدانهم و نهج مقاربتهم لحيواتهم.