تحرير النفس من التعلق بالأشخاص والأشياء
يصاب الكثير منا بالغم والهم نتيجة لعلاقاتنا مع الآخرين. فعندما تميل تلك العلاقات إلى السلبية فإن المشاعر والأفكار السلبية تنشأ وتنمو وتتراكم لا محالة.. والسؤال المطروح هو: لماذا علاقاتنا بالآخرين هي أساس وجودنا على هذه الأرض؟
والجواب من جهة، هو احتياج بعضنا للبعض الآخر، فنحن نحتاج الآخر، والآخر يحتاجنا، لنشعر جميعنا بالأمان والحماية على أرض، أهم ما يُميز وجودنا فيها، هو مشاعر الخوف والحزن..
إذن ولكي نتعامل مع القنابل الموقوتة الكامنة في عقولنا اللاواعية، والتي هي ناتجة عن علاقاتنا بالآخرين وبالأمور الحياتية، علينا أن نحرر أنفسنا من التعلق بالأمور التي أنتجت تلك القنابل، ألا وهي البشر والأشياء المادية..
ولكي نتمكن من تحرير أنفسنا من هذا التعلق، علينا أن نتخذ من الوسيلتين التاليتين هدفًا لنا وهما:
لذلك فإن من أهم نتائج الحياة في مستوى الأنا الدنيوية الوعي المنغلق. نحن نعيش في هذا المستوى داخل سجن صنعناه لأنفسنا، معتقدات وتوقعات وأفكار ، شعورية ولاشعورية، الكثير منها سلبي وخاطئ، نرى الحياة من منظور دنيوي بحت نعيش للناس ونبحث عن رضا الناس ونتعلق بالناس ونقارن أنفسنا بالناس ويهمنا كلام الناس..
وعندما نعيش في هذا المستوى، فسوف نعاني ونتألم ونغضب ونخاف ونسقط عيوبنا على الآخر .. فنتهم الآخر بأنه هو المخطئ وهو العدو وقد نخسر بسبب ذلك علاقات مهمة لنا، وقد نخسر أنفسنا أيضًا..
وفي الحقيقة أكبر عدو لنا هو أنفسنا.. فبعيدًا عن مراقبتنا لأنفسنا نقع في شتى المشاكل والضغوطات دون وعي منا، وهكذا يُصبح مجهودنا كبيرًا ونتائجنا قليلة.. ونعيش حالة الاغتراب مع وجودنا الوهمي، فلا نتواصل مع جوهرنا ، أي مع الأنا الحقيقية الأنا الروحية. وعندما نختلي بأنفسنا بعيدًا عن الآخر نشعر بالوحدة والضياع، وقد يتساءل كل فرد منا مع نفسه، من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟ وما الهدف من وجودي هنا؟ ولا نجد الجواب وتستمر الحيرة. وقد نهرب من أنفسنا إلى الإدمان على أشخاص، أو أعمال أو جماعات أو ألعاب إلكترونية أو مشروبات.. هروبا من مشاعر الغربة..
إن الأنا الدنيوية بعيدة عن الوعي المنفتح ، وبعيدة عن الوعي النقي، وبعيدة عن الفطرة السليمة التي ولدنا عليها.. فبسبب غرقنا في الأنا الوهمية، تشوهت فطرتنا وانحرفت، أصبح هناك حجاب غليظ من التراكمات التي فصلت بيننا وبين جوهرنا.. نعيش مسرحية مزيفة وشكلًا خارجيًا لا قيمة له بالنسبة إلى وجودنا الحقيقي. وجودنا الحقيقي هو بعيد عن البشر ، نحن والكون المسخر لنا إن رغبنا في ذلك، بل نحن أقرب إلى خالق الكون وخالقنا..
أن نراقب أنفسنا يعني أن نراقب أفكارنا وردود أفعالنا وتصرفاتنا وكلامنا ومشاعرنا.. أن نراقب الإشارات التي تُطلقها أجسادنا من ألم أو اضطراب.. نراقب أحاسيس قلوبنا من ضيق أو انزعاج أو راحة.. وعندما نتخذ قرارًا بأن نبدأ في فهم أنفسنا لاكتشاف خباياها، واكتشاف جزء مما هو دفين في عقولنا اللاواعية، واكتشاف السموم الدفينة فيها، ونتحمّل مسؤولية نقاط ضعفنا وعيوبنا دون أن نسقطها على الآخرين.. عندها فقط نرتقي في مستوى وعينا وندرك أن القوة من الداخل والتغيير من الداخل ونصل إلى مستوى الوعي المنفتح وربما نصل إلى مستوى الوعي النقي..
فنحن جزء من هذا الكون، وما ينطبق عليه من قوانين ينطبق علينا .. سندرك أنّ الأرض هي أُمّنا، وأن القوانين التي تُسيّر الطبيعة وتُسيّر أجسادنا بمشيئة الله سبحانه، هي نفسها القوانين التي علينا اكتشافها بالتدبر والتفكر ، لنسير على نهجها باختيارنا ، ومشيئتنا التي منحها الله لنا، وبقدرتنا العقلية التي وهبنا الله.. فالله منحنا مشيئة بمشيئته وإرادة بإرادته، وهذا هو امتحاننا أو ابتلاؤنا على هذه الأرض..
بالتفكر والتدبر، نعيش لحظات من السكينة، لحظات نفرغ فيها عقولنا من الضوضاء التي تملأه يوميًا .. لحظات نعيشها ونحن في حالة تواصل مع أنفسنا ومع مخلوقات الله الصامتة المُسيّرة وليست المخيّرة.. فندرك بعضا من القوانين الإلهية التي تُسيّر أجسادنا والكون. على سبيل المثال : قانون العطاء، وقانون التناغم والانسجام، وقانون الصبر، وقانون الشكر، وقانون الرضا، وقانون الحب، وقانون الحركة وقانون التعاون.. إنها قوانين مهمة من أجل علاقتنا بالناس، وعلاقتنا بأنفسنا..
فليس مطلوبًا منا في هذه الحياة أن نعيش المعاناة دائمًا.. المعاناة المرتبطة بتعلقنا بالناس والأشياء، بالأنا الدنيوية، بل مطلوب منا أن نختار الاستسلام للمنهج الإلهي في هذا الكون بإرادتنا الحرة..
مطلوب منا أن نختار السلام والأمان بوعينا ومعرفتنا لأنفسنا ، أن نعيش الحياة ، كما تُحلّق الطيور ويسبح السمك وتهتز الأغصان.. مطلوب منا أن نوطد علاقتنا بالطبيعة، فهي بيتنا ومدرستنا وصديقتنا نقضي معها كل يوم دقائق بل حتى ساعات ونحن مسترخون لسماع أصواتها العذبة، ومشاهدة جمالها الأخاذ، واستنشاق هوائها المنعش.. فتتدفق الطاقة الكونية من خلالنا ونرقى في مستوى وعينا..
امتحاننا هو في أن نرقى بمستويات وعينا لنعرف خالقنا لنعرفه بقلوبنا وبنور البصيرة.. تجلياته فينا وفي الكون وفي كل مخلوقاته، نعرفه بالرضا والتسليم والاستسلام له.. فملهيات الحياة وانشغالاتها تجعلنا نفقد الإحساس بوجوده، تجعلنا نفقد حريتنا لنكون عبيدًا لما نحن منشغلون به علی الدوام..
لنتعايش ونستريح مع اللحظة التي نحن فيها ، لنعمل ما في وسعنا دون اعتراض.. ما الذي نجري وراءه؟ وماذا نريد؟ عندما يكون حرصنا شديدًا مدفوعا برغبات (الأنا الدنيوية) والأنانية، فإن مجهودنا سيكون كبيرًا والنتائج قليلة أو تكاد تنعدم ليس بقدر الجهد تُنال الرغائب.. لنسترخي ونهدأ ونتمهل ونصبر ونأخذ بالأسباب ونعمل لتحقيق أهدافنا دون توتر أو خوف.. نتمنى الخير لأنفسنا وللآخرين، فوراء الأسباب يوجد مسبب الأسباب وهو الذي يرزقنا ويلهمنا ويشفينا.. فإن حققنا هدفًا أو بعضًا من أهدافنا كان بها ، وإن لم نحقق شيئًا فلا بأس.. المشكلة عندما نرفض ما وقع، أو ما هو متوفر، إن نحن سلّمنا ورضينا قد ننال ما لم يكن في حسباننا.. لنستمتع بما عندنا ونحبه وننظر إلى النصف المليء من الكأس..
الاستسلام يعني أن نفعل ما نفعله في سبيل الله ، نفعل خيرًا في سبيل الله، نتقن عملنا في سبيل الله، نتعامل مع الآخرين في سبيل الله.. هدفنا أن نكون متناغمين مع ذواتنا، صادقين معها، ومتناغمين مع فطرتنا التي ولدنا عليها سليمة...
عندما نجاهد أنفسنا لنكون راضين ومسلمين نصبح متناغمين مع المنهج الإلهي في الكون فتتدفق علينا النعم، ويصبح جهدنا أقل ونتائجنا أكثر، لأن الكون حليفنا، إنه قانون الجهد الأقل، كالشجرة تُعطي ثمارها بلا جهد وكالنجوم والكواكب تدور في مسارها .. نحدد نيتنا ونطلقها ونعمل ما في وسعنا، ونحن على يقين بأن المنهج الإلهي سيتولى التفاصيل ... يظهر ذلك في الفرص والصدف التي تواجهنا خلال مسيرتنا نحو تحقيق أهدافنا أو رغباتنا .. الصدف التي هي رسائل وإشارات من المجال الكوني، تعمل على توجيهنا وإنارة الطريق لنا..
إذًا عندما نحدد أهدافنا ونسعى نحو تحقيقها ونعمل ما في وسعنا مع الأخذ بالأسباب، متناغمين مع فطرتنا التي ولدنا عليها سليمة ومع المنهج الإلهي.. حينئذ نصبح أكثر ميلًا للرضا والسكينة، فنستمتع بخطواتنا وبما نصادفه في طريقنا، ونستمتع بالطاقة التي تسري من خلال أجسادنا ونحن نعمل دون أن تكون النتائج هاجسنا.. نؤمن بأن الله الذي خلقنا هو الرازق والناصر والشافي والرحيم.. ومشيئته فوق مشيئتنا وإرادته فوق إرادتنا.. وننصت إلى إشارات أجسادنا وإلى الصدف التي تعترض طريقنا، لأنهما البوصلة التي توجهنا نحو تحقيق أهدافنا..
فالتربية علم وفن، وغالبًا نحن الآباء والأمهات ما نرتكب أخطاء في تعاملنا مع أطفالنا، عن جهل ودون قصد منا.. فتركيبة الطفل النفسية، وطريقة تحليله ونظرته للأمور، تختلف تماما عن تركيبة الراشدين وطريقة تحليلهم للأمور...
فالطفل إنسان في طريق النمو، وكل ما يصدر منا نحوه من تصرفات وأقوال وحركات جسد ونبرة صوت.. يؤثر في اتجاه نموه ويدركه مرتبطًا بالتقبل والرفض.. فيدرك من خلال الأساليب التي تميل إلى السلبية، من صراخ وعنف وإهمال.. على أنه مرفوض.
ويتعرّض الطفل لخبرات مؤلمة من قبل والديه (ثم من المحيطين به ) عندما تميل أساليبهما التربوية للسلبية.. وذلك ناتج عن خلل في تواصلهما السليم مع مشاعره وأفكاره.. ما يؤدي إلى نشوء القنابل الموقوتة التي تتراكم السموم النفسية فيها تدريجيًا مع تكرار المواقف المؤلمة بالنسبة إليه..
علينا أن نعيد النظر - ونحن كبار – في خبراتنا المؤلمة التي سببها لنا آباؤنا وتعايشنا معها.. الخبرات التي (دون وعي منا) كبتنا جزءًا منها أو أنكرناه.. لنرى والدينا في صورة مثالية، أو لاعتقادنا أننا نستحق ذلك التعنيف.. فنحن لا نستطيع تغيير الماضي ولكننا نستطيع تغيير وجهة نظرنا فيه..
نعود إلى الوراء بخيالنا إلى مواقف شعرنا فيها بالظلم أو الخوف أو الألم أو الغضب أو الغيرة.. لنعمل على استرجاعها بإدراكنا اليوم وبخبراتنا الحالية، وهدفنا هو تحليل أفكارنا ومشاعرنا السلبية السابقة لنراها في سياقها أو مجالها الذي ظهرت فيه.. على سبيل المثال: أبي كان على خلاف مستمر مع أمي، أو أن أمي كانت تجهل أساليب التربية الإيجابية، أو أن أمي أنجبت أخًا لي وأنا لازلت صغيرًا فلم أستوعب سبب تحول اهتمامها عني..
والهدف من استرجاع خبراتنا المؤلمة هو الفهم وليس العفو، وإن استطعنا العفو يكون أفضل.. لكن مجرد معرفتنا لخبايا أنفسنا وفهمها يجعلنا نرقى في مستوى وعينا..
والتعلق هو دليل نقص في النضج العاطفي، بينما الحب الحقيقي دليل على الارتقاء في مستوى الوعي.. التعلق يرتبط بمشاعر الخوف من فقدان الطرف الآخر، والغضب إن ابتعد، من أجل العمل على استرداده، بينما الحب الحقيقي يرتبط بالتوازن النفسي والإشباع العاطفي.. ويرتبط التعلق بالأنا الدنيوية، بينما الحب الحقيقي يرتبط بالأنا الروحية وبقوانين الفطرة السليمة، أي بالصدق والعطاء وبكل ما هو إيجابي..
ويساعدنا إتباع الأسلوبين التاليين على أن نجعل بيننا وبين نتائج أعمالنا وعلاقاتنا مسافة، لنعيش التناغم مع فطرتنا السليمة ومع رغباتنا الحقيقية، والأسلوبان هما :
وعندما نستوعب هذا المبدأ يُصبح لدينا القابلية للتعلم من الآخر، لأن كل فرد منا، مهما كان سنه أو مستواه الاجتماعي أو التعليمي، لديه ما يمكن أن يُفيد ويُضيف للرصيد المعرفي للآخرين.. كما أننا عندما نؤمن بهذا المبدأ ، نصبح أقل ميلًا لتصعيد مواقف الخصام والصراع، لأننا ندرك أن كلا منا يرى الموقف من زاوية مختلفة عن الآخر..
وعندما نتقبل الاختلافات الموجودة بيننا يميل تعاملنا مع بعضنا إلى الموضوعية، ونبتعد عن تناول الاختلافات بشكل شخصي.. فالتعامل الشخصي يجعلنا ألعوبة بيد الآخرين، فيتمكنون من مزاجنا سواء سلبًا أو إيجابًا، بسبب تأثرنا بحالتهم المزاجية وبردود أفعالهم.. التعامل الموضوعي مع الآخر، يعني أننا استطعنا أن نترك مسافة فيما بيننا، مسافة داخلية كي لا يملأ الضجيج عقولنا ويتعكّر صفاء قلوبنا..
الثقة بالنفس :
أنفسنا أمانة لدينا ، فعلينا أن نجعلها محور الحب والرعاية والاهتمام والتقدير، ونعمل على مراقبتها لاكتشاف نقاط قوتها ونقاط ضعفها ، لنفهمها ونعرفها ونصادقها..
الثقة بالنفس خاصية مكتسبة، نكتسبها من خلال عملنا المتواصل الهادف إلى تطوير ذواتنا، لنعيش السكينة والأمان الداخلي، وليتميز كل فرد منا بكونه هو، لا شخصا آخر..
لا للمقارنة بالآخرين :
بما أن كلا منا بصمة لا مثيل له، لذلك أن نقارن صفاتنا أو خصائص شخصياتنا مع صفات وخصائص الآخرين قد يكون أمرًا مُحبطًا ومُسيئا لنا .. على سبيل المثال: عندما أُحدث نفسي بقولي إنّ فلانة أجمل مني، أو إنّ فلانًا أكثر رفاهية أو أكثر أناقة أو أكثر حظا مني.. معنى ذلك أنني أقارن ما لدي بما لدى الآخرين..
فرغم أننا نتأثر ونؤثر بالآخرين المحيطين بنا، ونتعلم من النماذج الذين نتخذهم قدوة لنا، ونتعلم كذلك بالتقليد .. إلا أنّ المقارنة تجعلنا إما أن نرى للآخر أفضلية علينا مما يُشعرنا بالنقص، أو نراه دوننا فنشعر بالغرور والكبر ..
عدم التضحية بالنفس :
المطلوب منا داخل العلاقات الإنسانية تحري التوازن، أي مسك العصا من الوسط، لا نسيئ للآخرين، ولا نقبل أن نقع ضحية المسيئين إلينا..
وللوصول إلى هذا التوازن علينا أن نتحلى بالثقة بالنفس التي تسمح لنا بحماية حدودنا، وحماية كل ما يمت لأنفسنا بصلة، من مال وجهد ووقت وأشخاص مقربين.. دون أن نسيئ للآخر أو نخسر المواقف.
عندما نكون ضحايا للآخرين نشعر بالعجز وقلة الحيلة، فنفقد حريتنا ونتخلى عن قوتنا لأشخاص لا يهتمون بمصالحنا وهذا أمر خطير، خاصة عندما نسمح لهم بالسيطرة على مشاعرنا والاستسلام لهم. والسؤال الذي يطرح نفسه، ما هي الأساليب التي تساعدنا على ألا نعيش ضحايا لآخرين؟
أهم الأساليب التي تجعلنا نعيش التوازن دون أن نخسر أنفسنا هو: قول كلمة (لا) بحزم واحترام للآخر. قول كلمة (لا) تساعدنا على حماية حدودنا ومنع الآخرين من اختراقها والإساءة إلينا. إنها الكلمة التي توضح لهم الخطوط الحمراء التي يجب ألا يتجاوزوها أثناء تعاملهم معنا، وتوضح لهم ما نريد أو ما لا نريد فالهدف من هذه الكلمة، هو أن نحمي أنفسنا من أن نكون ضحايا للآخرين بالدفاع عن حدودنا..
التخلي عن أسلوب لوم الآخرين يساعدنا على ألا نكون ضحايا لهم. فالانشغال بالآخر المسيء أو الظالم لنا (حسب إدراكنا) يُؤثر سلبًا على طاقتنا، لأننا ننشغل بطرح تساؤلات على أنفسنا لا جواب لها من قبيل: لماذا فلان أساء لي؟ ماذا فعلت له كي يتصرف معي بهذا الشكل؟ وكيف سمحت له نفسه بذلك؟ نلوم شخصا لاعتقادنا أنه استخف بنا أو أهاننا، أي نلوم شخصا آخر على ما نواجهه من متاعب، وهذا في حد ذاته مشكلة، عندما نعتقد أن سبب ألمنا يقع خارج أنفسنا، فنبحث عن تفسير لهذا الألم ونلجأ للوم..
من أكثر الأساليب التي يلجأ لها الشخص الضحية، أساليب الشكوى والتذمر، الشكوى من الناس ومن الأوضاع ومن الظروف.. وفي اعتقاده أنه لا حول له ولا قوة، وأنّ الآخر مسيطر عليه ومتحكم فيه.. فلا يعيش الحرية الحقيقية التي هي من مبادئ فطرته السليمة. فالشكوى هي تركيز على السلبيات، لأنها من جهة تعود بالمزيد من السلبيات على الشخص نفسه، ومن جهة أخرى تمتص طاقة الطرف الآخر فيصبح أكثر ميلًا لممارسة العنف...
الإيمان بأن القوة والتغيير ينبعان من الداخل :
من خصائص مهارات التواصل الإيمان بأن القوة تنبع من الداخل وكذلك التغيير ينبع من الداخل. فنحن نمتلك إرادة حرة، وما يُحزننا أو يُفرحنا، وما يُؤلمنا أو يُريحنا، هو ما يصدر عنا من مشاعر وكلمات وتوقعات وأفكار وأحاسيس.. لذلك إيماننا هذا يمنعنا من إسقاط عيوبنا على الآخرين، بل نعتبره تحديًّا لنا، فهدفنا أن نربح أنفسنا دون أن نخسر الآخر.. وعندما نشعر بالاستفزاز من موقف أو سلوك صدر عن الآخر، نعود ونسأل أنفسنا ، لماذا شعرنا بالاستفزاز؟ ما هي نقاط ضعفنا التي طفت على السطح ؟ لنعمل على مواجهتها وتحويلها من نقطة ضعف تعمل ضدنا إلى نقطة قوة تعمل لصالحنا.. فالآخر مرآة لنا نرى فيه محاسننا وعيوبنا، إن أحسنا إليه نكون قد أحسنا إلى أنفسنا، وإن أسأنا إليه نكون قد أسأنا إلى أنفسنا..
الرضا بالواقع :
الرضا بالواقع يجعلنا نعيش السلام والأمان الداخلي، الواقع الذي لا يمكننا تفاديه أو تغييره عندما نتقبله نجذب لأنفسنا الخير من حيث لا ندري وعندما نرفضه نجذب لأنفسنا الأسوأ منه، لأن الرفض يجعل جسدنا يُطلق إشارات دالة على الاستياء والانزعاج، وهي إشارات سلبية تعيق تدفق الطاقة الكونية من خلالنا فنشعر بالألم والإحباط..
المشاكل تأتي من الرفض، والرفض هو أصل جميع الأفكار والمشاعر السلبية.. بينما مع الرضا لا توجد مشاكل نعمل ما في وسعنا والباقي بيد الله.. وفي هذه الحالة، نحن نتعامل مع خبراتنا السلبية الدفينة ببصيرة ووعي منفتح ونعرف أنفسنا أكثر..
أخذ المبادرة :
نبدأ بالسلام ونبدأ بالصلح، ونبدأ بالسير في طريق تبديد الأوهام والشكوك التي قد تملأ عقولنا، بسبب انتظارنا من الآخر (زوج أو ابن أو أخ أو صديق...) ليأخذ بادرة يبدد بها غيوم سوء تفاهم أو قطيعة رحم أو جفاء حصل بيننا وننسى أننا طرف في العلاقة ومسؤوليتنا هي أنفسنا، وقراراتنا هي اختيارنا وحريتنا في اختيار القرارات التي تجعلنا نربح أنفسنا دون أن نخسر علاقات مهمة بالنسبة إلينا..
افصل مشاعرك، واتخذ موقف الحياد كمن يُشاهد فيلمًا.. كما لو أنك تعيش مع أحداث الفيلم وتتأثر بها، وعندما ينتهي الفيلم، تنتهي معه مشاعرك وأحاسيسك وتعود إلى نفسك وكأنك عشت للحظات أو ربما لساعات (زوبعة في فنجان)..
فأحداث الحياة تبدأ وتنتهي، أي أنّ لها بداية ولها نهاية، وعندما تعيشها بخوفك وقلقك وتوترك وألمك..، تعيشها بكل كيانك، فإنها لا محالة ستترك أثرها السلبي على نفسك وجسدك.. وأيضا عندما تتعامل مع الأحداث والمواقف دون وعي منك بمحتويات القنابل الموقوتة الدفينة فيك، فأنت لا محالة ستخسر نفسك..
لذلك عندما تفصل الحدث عن نفسك، وتنظر لنفسك كممثل في مسرحية، وهذا يحتاج إلى قرار منك، ويحتاج إلى تدريب لتتقن العادات الجديدة، فإنك سوف تعرف نفسك، وتفهم نفسك، وتراقب نفسك وكأنها منفصلة عن وعيك.. حينها ترى ما لا يمكنك أن تراه بوعيك المنغلق، الوعي المنغلق المتعلق بالأشخاص والأحداث والنتائج والأشياء..
ليس معنى أن تفصل نفسك عن الظروف والأحداث والنتائج.. أن تتجاهل وتُنكر وتُفسد حياتك، بل معناه أن تُبعد ذاتك إلى حد ما، كي لا تكون أساليب الدفاع عن النفس هي هاجسك، فتشن الحرب على من أثارك من أشخاص أو أحداث ومواقف.. وتبحث عن النية الإيجابية الكامنة وراء تصرف الآخر لتفهم الموقف بشكل محايد بشكل موضوعي، وتفهم نتائج أعمالك.. وتعي أن نتائج أعمالك ليست أنت، بل أنت الوعي الذي يرى كيفية سير الأحداث والأمور من حوله..
عليك أن تُحدد أهدافك، وتعمل وتعيش الطاقة التي تتدفق من خلالك وأنت تعمل.. قد تصل للهدف وقد لا تصل، ليس هذا هو المهم ، بل الأهم أن تعيش كل يوم من حياتك وأنت راض ومرتاح ومستمتع بما أعطاك الله من خير، وبما أعطاك من طبيعة خلابة التي هي ملكك إن رغبت في ذلك. تتمنى الخير لنفسك وللجميع، دون أن تُضحي بنفسك ودون أن تؤذي الآخر..
اجعل هدفك دائما هو أن تفهم نفسك، ليس لكي تكون الإنسان الكامل، بل لتكون أنت.. أنت الشخص المتفرد الوحيد الذي يعيش الحياة وحده ويُعاني وحده ويمرض وحده ويموت وحده ويُحاسب وحده..
تعلم عادات جيدة تساعدك على أن تتخذ موقف الحياد، وتعيش الحياة كمسرحية.. ومن أهم تلك العادات :
عادة عدم التسرع في الرد ، أعط نفسك ثواني للتفكير قبل أي رد فعل، لأن التسرع معناه أنك ترغب في الدفاع عن نفسك أو الدفاع عن وجهة نظرك.. وهذا الأسلوب يُصعد الخلافات، ويجعلك مشغولاً بالاستعداد للرد الدفاعي. يجب أن يكون هدفك فهم وجهة نظر الآخر المختلف عنك، حتى وإن كانت تعمل لغير صالحك..
تعتمد العادة الثانية على أساليب التخيل، تتخيل نفسك وحيدًا في هذا العالم، على أرض ليس فيها بشر، ولكن فيها بحر وسماء وشمس وقمر وطيور.. وأنت في هذه الحالة تتساءل عمن يحميك؟ وإلى من توجه تضرعك؟ بالتأكيد ستنظر إلى السماء وتقول: يا رب إنه صوت الفطرة التي تنادي تلقائيا من أوجدها، وتبحث عن التناغم والاندماج بالطبيعة التي هي تجلّ من تجليات الخالق سبحانه وتعالى.. وعندما تتخيل نفسك وحيدًا رغم وجود الناس من حولك، ستعاملهم بالرحمة والتسامح والحب والعطاء.. لتتقي فتنتهم لك، ولتتقي عداوتهم التي تملأ عقلك بالضجيج، وتعيش عالم الغيب عالم التناغم مع نفسك. ومع الطبيعة..
والعادة الثالثة هي أن تتخيل في قلبك غرفة (ولنسمها محرابًا) تلجأ إليها عندما تشعر بالرغبة في الخلوة مع نفسك، وتشعر بالرغبة في الابتعاد عن عالم البشر .. قبل أن تدخل الغرفة، تضع الحمولة التي تُثقل كاهلك على بابها، ثم تدخل لتتواصل مع ذاتك الحقيقية، مع جوهرك، وتستشعر وجود الله معك.. وعندما تمارسها بانتظام وتصبح عادة لديك، حينها ستمدك تلك العادة بمشاعر الأمان والسكينة وتساعدك على فهم نفسك ، ومعرفتها أكثر..
د . فاطمة الكتاني
والجواب من جهة، هو احتياج بعضنا للبعض الآخر، فنحن نحتاج الآخر، والآخر يحتاجنا، لنشعر جميعنا بالأمان والحماية على أرض، أهم ما يُميز وجودنا فيها، هو مشاعر الخوف والحزن..
ومن جهة أخرى، أنا لا أعتبر موجودًا إن لم يكن هناك آخر يعترف بوجودي.. فمن أنا؟ من أنا كذات دنيوية أو ذات اجتماعية، ذات نشأت وتكونت من خلال العلاقات مع الآخرين (أولهم الأم ثم الأب).. أنا كائن نسبي، أي نسبة إلى الآخر. أنا قوي بالنسبة إلى الضعيف، وأنا ذكي بالنسبة إلى الغبي، وأنا طويل بالنسبة إلى القصير، وأنا طيب بالنسبة إلى الشرير..
لذلك نجد من أهم صفات الأنا الدنيوية الحاجة إلى تأكيد الذات وسط الآخرين، والحاجة إلى حب الآخرين وتقديرهم..
ومن هذا المنطلق تنشأ المخاوف الدنيوية، كالخوف من الرفض والخوف من الفشل والخوف من الوحدة وتنشأ الرغبات كالرغبة في الانتصار على الآخر والرغبة في السيطرة والرغبة في الخضوع. وتنشأ الميول كالميل إلى الأنانية والميل إلى حب الظهور والميل إلى العدوانية والميل إلى الاستغلال.. لذلك فجوهر العلاقات هو الصراع، نظرًا للاختلافات الموجودة بين الناس، فكل فرد هو كائن متفرد لا مثيل له بشكله وخبراته ومنظومة أفكاره..
نحن نتعلق بالأشخاص والأشياء، خوفًا من فقدها وخوفًا من تخليها عنا.. معنى ذلك أنّ التعلق يُعبّر عن ضعفنا الإنساني، واحتياجنا إلى قوة نتمسك بها لنشعر بالأمان والراحة.. نستمد القوة من الأشخاص المقربين لنا ونستمدها كذلك من امتلاكنا للأشياء (المال والسلطة والمركز الاجتماعي والممتلكات..).
وبسبب ضعفنا ومخاوفنا، ونظرتنا المحدودة حيث نؤمن بما ندركه بواسطة حواسنا الخمس، ونغرق في مستوى الوعي المنغلق مستوى الأنا الدنيوية.. ويغيب عن أكثرنا أنّ التحدي الكبير هو الإيمان بما هو خارج نطاق حواسنا، الإيمان بالجانب الروحي فينا.. جانب الاتصال بالروح، علاقة كل واحد منا بنفسه، علاقته بعيدًا عن عالم البشر ، وحيدًا على هذه الأرض مع خالقه..
لذلك نجد من أهم صفات الأنا الدنيوية الحاجة إلى تأكيد الذات وسط الآخرين، والحاجة إلى حب الآخرين وتقديرهم..
ومن هذا المنطلق تنشأ المخاوف الدنيوية، كالخوف من الرفض والخوف من الفشل والخوف من الوحدة وتنشأ الرغبات كالرغبة في الانتصار على الآخر والرغبة في السيطرة والرغبة في الخضوع. وتنشأ الميول كالميل إلى الأنانية والميل إلى حب الظهور والميل إلى العدوانية والميل إلى الاستغلال.. لذلك فجوهر العلاقات هو الصراع، نظرًا للاختلافات الموجودة بين الناس، فكل فرد هو كائن متفرد لا مثيل له بشكله وخبراته ومنظومة أفكاره..
نحن نتعلق بالأشخاص والأشياء، خوفًا من فقدها وخوفًا من تخليها عنا.. معنى ذلك أنّ التعلق يُعبّر عن ضعفنا الإنساني، واحتياجنا إلى قوة نتمسك بها لنشعر بالأمان والراحة.. نستمد القوة من الأشخاص المقربين لنا ونستمدها كذلك من امتلاكنا للأشياء (المال والسلطة والمركز الاجتماعي والممتلكات..).
وبسبب ضعفنا ومخاوفنا، ونظرتنا المحدودة حيث نؤمن بما ندركه بواسطة حواسنا الخمس، ونغرق في مستوى الوعي المنغلق مستوى الأنا الدنيوية.. ويغيب عن أكثرنا أنّ التحدي الكبير هو الإيمان بما هو خارج نطاق حواسنا، الإيمان بالجانب الروحي فينا.. جانب الاتصال بالروح، علاقة كل واحد منا بنفسه، علاقته بعيدًا عن عالم البشر ، وحيدًا على هذه الأرض مع خالقه..
إذن ولكي نتعامل مع القنابل الموقوتة الكامنة في عقولنا اللاواعية، والتي هي ناتجة عن علاقاتنا بالآخرين وبالأمور الحياتية، علينا أن نحرر أنفسنا من التعلق بالأمور التي أنتجت تلك القنابل، ألا وهي البشر والأشياء المادية..
ولكي نتمكن من تحرير أنفسنا من هذا التعلق، علينا أن نتخذ من الوسيلتين التاليتين هدفًا لنا وهما:
- 1 - الارتقاء بمستوى الوعي.
- 2 - أن نترك مسافة بيننا وبين نتائج أعمالنا وعلاقاتنا.
الارتقاء بمستوى الوعي
ترتبط القنابل الموقوتة المليئة بالسموم النفسية بالأنا الدنيوية، الأنا الاجتماعية التي بدأت تتكون منذ ميلادنا إلى اليوم، الأنا التي اكتسبناها من خلال علاقاتنا بالآخرين. فالأنا الدنيوية تُعبّر عن اختلاف بعضنا عن البعض الآخر، وتُعبّر عن الصراع الذي نعيشه فيما بيننا، وعن حرصنا على تحقيق وجودنا وسط الآخرين، وتخوفنا من عدم قدرتنا على إثبات هذا الوجود..لذلك فإن من أهم نتائج الحياة في مستوى الأنا الدنيوية الوعي المنغلق. نحن نعيش في هذا المستوى داخل سجن صنعناه لأنفسنا، معتقدات وتوقعات وأفكار ، شعورية ولاشعورية، الكثير منها سلبي وخاطئ، نرى الحياة من منظور دنيوي بحت نعيش للناس ونبحث عن رضا الناس ونتعلق بالناس ونقارن أنفسنا بالناس ويهمنا كلام الناس..
وعندما نعيش في هذا المستوى، فسوف نعاني ونتألم ونغضب ونخاف ونسقط عيوبنا على الآخر .. فنتهم الآخر بأنه هو المخطئ وهو العدو وقد نخسر بسبب ذلك علاقات مهمة لنا، وقد نخسر أنفسنا أيضًا..
وفي الحقيقة أكبر عدو لنا هو أنفسنا.. فبعيدًا عن مراقبتنا لأنفسنا نقع في شتى المشاكل والضغوطات دون وعي منا، وهكذا يُصبح مجهودنا كبيرًا ونتائجنا قليلة.. ونعيش حالة الاغتراب مع وجودنا الوهمي، فلا نتواصل مع جوهرنا ، أي مع الأنا الحقيقية الأنا الروحية. وعندما نختلي بأنفسنا بعيدًا عن الآخر نشعر بالوحدة والضياع، وقد يتساءل كل فرد منا مع نفسه، من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟ وما الهدف من وجودي هنا؟ ولا نجد الجواب وتستمر الحيرة. وقد نهرب من أنفسنا إلى الإدمان على أشخاص، أو أعمال أو جماعات أو ألعاب إلكترونية أو مشروبات.. هروبا من مشاعر الغربة..
إن الأنا الدنيوية بعيدة عن الوعي المنفتح ، وبعيدة عن الوعي النقي، وبعيدة عن الفطرة السليمة التي ولدنا عليها.. فبسبب غرقنا في الأنا الوهمية، تشوهت فطرتنا وانحرفت، أصبح هناك حجاب غليظ من التراكمات التي فصلت بيننا وبين جوهرنا.. نعيش مسرحية مزيفة وشكلًا خارجيًا لا قيمة له بالنسبة إلى وجودنا الحقيقي. وجودنا الحقيقي هو بعيد عن البشر ، نحن والكون المسخر لنا إن رغبنا في ذلك، بل نحن أقرب إلى خالق الكون وخالقنا..
أن نراقب أنفسنا يعني أن نراقب أفكارنا وردود أفعالنا وتصرفاتنا وكلامنا ومشاعرنا.. أن نراقب الإشارات التي تُطلقها أجسادنا من ألم أو اضطراب.. نراقب أحاسيس قلوبنا من ضيق أو انزعاج أو راحة.. وعندما نتخذ قرارًا بأن نبدأ في فهم أنفسنا لاكتشاف خباياها، واكتشاف جزء مما هو دفين في عقولنا اللاواعية، واكتشاف السموم الدفينة فيها، ونتحمّل مسؤولية نقاط ضعفنا وعيوبنا دون أن نسقطها على الآخرين.. عندها فقط نرتقي في مستوى وعينا وندرك أن القوة من الداخل والتغيير من الداخل ونصل إلى مستوى الوعي المنفتح وربما نصل إلى مستوى الوعي النقي..
والسؤال: ما هي الطرق العملية التي تساعدنا على الارتقاء في مستوى وعينا، وتساعدنا على التواصل مع : ذواتنا الروحية ؟ .. الطرق العملية التي تساعدنا هي التدبر والتفكر والعمل المتناغم مع المنهج الإلهي فينا وفي الكون. ورؤية خبراتنا المؤلمة في مرحلة الطفولة من وجهة نظر أخرى، كل ذلك من أجل معالجة جراحنا...
أ - التدبر والتفكر
يساعدنا التفكر والتدبر في الكون وفي أنفسنا على الارتقاء بمستوى وعينا.. فكل ما خلقه الله سبحانه يسبح بحمده، وهو تجل من تجلياته، ويعمل وفق سنن محكمة ودقيقة..فعندما يصبح التفكر والتدبر عادة نمارسها يوميًا، لمدة دقائق وقد تصل لساعة أو أكثر، في الصباح وفي المساء أو في أي وقت نختاره، ونحن نركز تفكيرنا في ما نراه من آيات الله حولنا، أو نتأمل في السماء والبحر والشجر والطير.. فإننا لا محالة سنشعر بالاسترخاء والراحة، وسنتوصل بعدها إلى فهم واستيعاب أمور كنا نجهلها..
فنحن جزء من هذا الكون، وما ينطبق عليه من قوانين ينطبق علينا .. سندرك أنّ الأرض هي أُمّنا، وأن القوانين التي تُسيّر الطبيعة وتُسيّر أجسادنا بمشيئة الله سبحانه، هي نفسها القوانين التي علينا اكتشافها بالتدبر والتفكر ، لنسير على نهجها باختيارنا ، ومشيئتنا التي منحها الله لنا، وبقدرتنا العقلية التي وهبنا الله.. فالله منحنا مشيئة بمشيئته وإرادة بإرادته، وهذا هو امتحاننا أو ابتلاؤنا على هذه الأرض..
بالتفكر والتدبر، نعيش لحظات من السكينة، لحظات نفرغ فيها عقولنا من الضوضاء التي تملأه يوميًا .. لحظات نعيشها ونحن في حالة تواصل مع أنفسنا ومع مخلوقات الله الصامتة المُسيّرة وليست المخيّرة.. فندرك بعضا من القوانين الإلهية التي تُسيّر أجسادنا والكون. على سبيل المثال : قانون العطاء، وقانون التناغم والانسجام، وقانون الصبر، وقانون الشكر، وقانون الرضا، وقانون الحب، وقانون الحركة وقانون التعاون.. إنها قوانين مهمة من أجل علاقتنا بالناس، وعلاقتنا بأنفسنا..
ب - العمل المتناغم مع المنهج الإلهي فينا وفي الكون
الطريقة الثانية التي تساعدنا على الارتقاء بمستوى وعينا هي العمل المتناغم مع المنهج الإلهي..فليس مطلوبًا منا في هذه الحياة أن نعيش المعاناة دائمًا.. المعاناة المرتبطة بتعلقنا بالناس والأشياء، بالأنا الدنيوية، بل مطلوب منا أن نختار الاستسلام للمنهج الإلهي في هذا الكون بإرادتنا الحرة..
مطلوب منا أن نختار السلام والأمان بوعينا ومعرفتنا لأنفسنا ، أن نعيش الحياة ، كما تُحلّق الطيور ويسبح السمك وتهتز الأغصان.. مطلوب منا أن نوطد علاقتنا بالطبيعة، فهي بيتنا ومدرستنا وصديقتنا نقضي معها كل يوم دقائق بل حتى ساعات ونحن مسترخون لسماع أصواتها العذبة، ومشاهدة جمالها الأخاذ، واستنشاق هوائها المنعش.. فتتدفق الطاقة الكونية من خلالنا ونرقى في مستوى وعينا..
كل ما في الوجود من مخلوقات هو كائن حي، الأرض والجبل والنهر والشجر والورد والطير .. جميعها تُسبّح بحمد الله. فعندما نُحب كل ما هو موجود، يتحدث الكون إلينا ويكشف أسراره لنا.. يُحدث الكون كل منا قائلا: لا تحمل هما ولا تشق ولا تحزن وخذ بالأسباب، لكن اعلم أن الأسباب ليست إلا حجب، فوراء الأسباب يوجد مسبب الأسباب. اعلم أنّ للكون خالقًا يريدك أن تعرفه، ولن تعرفه إلا عندما تخرج من سجنك الذي صنعته بيديك، بعلمك أو بدون علمك، بجهلك وضعفك ..
امتحاننا هو في أن نرقى بمستويات وعينا لنعرف خالقنا لنعرفه بقلوبنا وبنور البصيرة.. تجلياته فينا وفي الكون وفي كل مخلوقاته، نعرفه بالرضا والتسليم والاستسلام له.. فملهيات الحياة وانشغالاتها تجعلنا نفقد الإحساس بوجوده، تجعلنا نفقد حريتنا لنكون عبيدًا لما نحن منشغلون به علی الدوام..
لنتعايش ونستريح مع اللحظة التي نحن فيها ، لنعمل ما في وسعنا دون اعتراض.. ما الذي نجري وراءه؟ وماذا نريد؟ عندما يكون حرصنا شديدًا مدفوعا برغبات (الأنا الدنيوية) والأنانية، فإن مجهودنا سيكون كبيرًا والنتائج قليلة أو تكاد تنعدم ليس بقدر الجهد تُنال الرغائب.. لنسترخي ونهدأ ونتمهل ونصبر ونأخذ بالأسباب ونعمل لتحقيق أهدافنا دون توتر أو خوف.. نتمنى الخير لأنفسنا وللآخرين، فوراء الأسباب يوجد مسبب الأسباب وهو الذي يرزقنا ويلهمنا ويشفينا.. فإن حققنا هدفًا أو بعضًا من أهدافنا كان بها ، وإن لم نحقق شيئًا فلا بأس.. المشكلة عندما نرفض ما وقع، أو ما هو متوفر، إن نحن سلّمنا ورضينا قد ننال ما لم يكن في حسباننا.. لنستمتع بما عندنا ونحبه وننظر إلى النصف المليء من الكأس..
الاستسلام يعني أن نفعل ما نفعله في سبيل الله ، نفعل خيرًا في سبيل الله، نتقن عملنا في سبيل الله، نتعامل مع الآخرين في سبيل الله.. هدفنا أن نكون متناغمين مع ذواتنا، صادقين معها، ومتناغمين مع فطرتنا التي ولدنا عليها سليمة...
عندما نجاهد أنفسنا لنكون راضين ومسلمين نصبح متناغمين مع المنهج الإلهي في الكون فتتدفق علينا النعم، ويصبح جهدنا أقل ونتائجنا أكثر، لأن الكون حليفنا، إنه قانون الجهد الأقل، كالشجرة تُعطي ثمارها بلا جهد وكالنجوم والكواكب تدور في مسارها .. نحدد نيتنا ونطلقها ونعمل ما في وسعنا، ونحن على يقين بأن المنهج الإلهي سيتولى التفاصيل ... يظهر ذلك في الفرص والصدف التي تواجهنا خلال مسيرتنا نحو تحقيق أهدافنا أو رغباتنا .. الصدف التي هي رسائل وإشارات من المجال الكوني، تعمل على توجيهنا وإنارة الطريق لنا..
إذًا عندما نحدد أهدافنا ونسعى نحو تحقيقها ونعمل ما في وسعنا مع الأخذ بالأسباب، متناغمين مع فطرتنا التي ولدنا عليها سليمة ومع المنهج الإلهي.. حينئذ نصبح أكثر ميلًا للرضا والسكينة، فنستمتع بخطواتنا وبما نصادفه في طريقنا، ونستمتع بالطاقة التي تسري من خلال أجسادنا ونحن نعمل دون أن تكون النتائج هاجسنا.. نؤمن بأن الله الذي خلقنا هو الرازق والناصر والشافي والرحيم.. ومشيئته فوق مشيئتنا وإرادته فوق إرادتنا.. وننصت إلى إشارات أجسادنا وإلى الصدف التي تعترض طريقنا، لأنهما البوصلة التي توجهنا نحو تحقيق أهدافنا..
ج - رؤية خبراتنا المؤلمة في مرحلة الطفولة من وجهة نظر جديدة
تساعدنا رؤية خبراتنا المؤلمة في مرحلة الطفولة من وجهة نظر جديدة، على الارتقاء بمستوى وعينا..فالتربية علم وفن، وغالبًا نحن الآباء والأمهات ما نرتكب أخطاء في تعاملنا مع أطفالنا، عن جهل ودون قصد منا.. فتركيبة الطفل النفسية، وطريقة تحليله ونظرته للأمور، تختلف تماما عن تركيبة الراشدين وطريقة تحليلهم للأمور...
فالطفل إنسان في طريق النمو، وكل ما يصدر منا نحوه من تصرفات وأقوال وحركات جسد ونبرة صوت.. يؤثر في اتجاه نموه ويدركه مرتبطًا بالتقبل والرفض.. فيدرك من خلال الأساليب التي تميل إلى السلبية، من صراخ وعنف وإهمال.. على أنه مرفوض.
بينما الأساليب الإيجابية من احترام وهدوء وحزم واهتمام يدرك من خلالها أنه مقبول ومحبوب والوالدان بالنسبة للطفل هما العالم فيبدو له العالم من خلال الأساليب السلبية مخيفا، وبالتالي يصبح أكثر ميلا للاضطرابات النفسية.. بينما من خلال الأساليب الإيجابية، يبدو له العالم آمنًا فيصبح أكثر ميلا للصحة النفسية..
ويتعرّض الطفل لخبرات مؤلمة من قبل والديه (ثم من المحيطين به ) عندما تميل أساليبهما التربوية للسلبية.. وذلك ناتج عن خلل في تواصلهما السليم مع مشاعره وأفكاره.. ما يؤدي إلى نشوء القنابل الموقوتة التي تتراكم السموم النفسية فيها تدريجيًا مع تكرار المواقف المؤلمة بالنسبة إليه..
علينا أن نعيد النظر - ونحن كبار – في خبراتنا المؤلمة التي سببها لنا آباؤنا وتعايشنا معها.. الخبرات التي (دون وعي منا) كبتنا جزءًا منها أو أنكرناه.. لنرى والدينا في صورة مثالية، أو لاعتقادنا أننا نستحق ذلك التعنيف.. فنحن لا نستطيع تغيير الماضي ولكننا نستطيع تغيير وجهة نظرنا فيه..
نعود إلى الوراء بخيالنا إلى مواقف شعرنا فيها بالظلم أو الخوف أو الألم أو الغضب أو الغيرة.. لنعمل على استرجاعها بإدراكنا اليوم وبخبراتنا الحالية، وهدفنا هو تحليل أفكارنا ومشاعرنا السلبية السابقة لنراها في سياقها أو مجالها الذي ظهرت فيه.. على سبيل المثال: أبي كان على خلاف مستمر مع أمي، أو أن أمي كانت تجهل أساليب التربية الإيجابية، أو أن أمي أنجبت أخًا لي وأنا لازلت صغيرًا فلم أستوعب سبب تحول اهتمامها عني..
والهدف من استرجاع خبراتنا المؤلمة هو الفهم وليس العفو، وإن استطعنا العفو يكون أفضل.. لكن مجرد معرفتنا لخبايا أنفسنا وفهمها يجعلنا نرقى في مستوى وعينا..
ترك مسافة بيننا وبين نتائج أعمالنا وعلاقاتنا
الوسيلة الثانية هي أن نترك مسافة بيننا وبين نتائج أعمالنا وعلاقاتنا.. فكل منا بصمة خاصة لا مثيل له بخبراته ومنظومة أفكاره.. وكل منا إنسان متفرد، يولد وحده ويموت وحده ويعاني وحده ويمرض وحده ويدرك وحده ويلقى الله وحده.. لذلك فإن تعلقنا بالناس والأشياء دليل خوفنا من الوحدة وخوفنا من الانفصال وخوفنا من الغرباء.. ودليل حاجتنا للآخر لنستمد منه القوة والأمان..والتعلق هو دليل نقص في النضج العاطفي، بينما الحب الحقيقي دليل على الارتقاء في مستوى الوعي.. التعلق يرتبط بمشاعر الخوف من فقدان الطرف الآخر، والغضب إن ابتعد، من أجل العمل على استرداده، بينما الحب الحقيقي يرتبط بالتوازن النفسي والإشباع العاطفي.. ويرتبط التعلق بالأنا الدنيوية، بينما الحب الحقيقي يرتبط بالأنا الروحية وبقوانين الفطرة السليمة، أي بالصدق والعطاء وبكل ما هو إيجابي..
ويساعدنا إتباع الأسلوبين التاليين على أن نجعل بيننا وبين نتائج أعمالنا وعلاقاتنا مسافة، لنعيش التناغم مع فطرتنا السليمة ومع رغباتنا الحقيقية، والأسلوبان هما :
- فن التواصل مع الآخرين
- والأسلوب السينمائي
أ - فن التواصل مع الآخرين
نحن نستمد قوتنا الداخلية من تواصلنا مع ذواتنا الحقيقية، من وجودنا المتفرد في هذه الحياة. وأيضًا نستمد قوتنا الحقيقية من علاقاتنا بالآخرين الذين نحتاجهم ويحتاجوننا، لكن هذا مشروط باستيعابنا لفن التواصل معهم والعمل بهذا الفن، لأن سوء التواصل له نتائج سلبية على الصحة النفسية والعقلية والاجتماعية، حيث أن سوء التواصل يجعلنا نخسر علاقات مهمة لنا ونخسر أنفسنا أيضًا.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هي خصائص التواصل الجيد أو المقبول مع الآخرين؟ للتواصل الجيد مع الآخرين عدة خصائص، أهمها ما يلي :تقبل الاختلاف :
في الحقيقة، كل واحد منا شخص متفرد لا مثيل له بخبراته ومنظومة أفكاره ومنطقه.. وعندما نؤمن بهذه الفكرة ونستوعبها، عندها ندرك أن الرغبة في الانتصار على الآخر من أجل إقناعه بوجهة نظرنا أمر لا يُفيد، بل في ذلك مضيعة للجهد وإساءة للعلاقة مع الآخر، خاصة عندما يكون الآخر متشبتا بوجهة نظره.
وعندما نستوعب هذا المبدأ يُصبح لدينا القابلية للتعلم من الآخر، لأن كل فرد منا، مهما كان سنه أو مستواه الاجتماعي أو التعليمي، لديه ما يمكن أن يُفيد ويُضيف للرصيد المعرفي للآخرين.. كما أننا عندما نؤمن بهذا المبدأ ، نصبح أقل ميلًا لتصعيد مواقف الخصام والصراع، لأننا ندرك أن كلا منا يرى الموقف من زاوية مختلفة عن الآخر..
وبما أننا نؤمن بأن لكل منا توجهاته الخاصة به والمختلفة عن توجهات بعضنا البعض، لذلك نبتعد تلقائيًا عن أساليب الجدال التي هي دليل على الجمود والتعصب الفكري.. التي تجعلنا نُصرّ على فرض وجهة نظرنا على الآخر. لذلك يجعلنا تقبلنا للآخر أكثر ميلًا لإتقان مهارتي الحوار والإنصات..
وعندما نتقبل الاختلافات الموجودة بيننا يميل تعاملنا مع بعضنا إلى الموضوعية، ونبتعد عن تناول الاختلافات بشكل شخصي.. فالتعامل الشخصي يجعلنا ألعوبة بيد الآخرين، فيتمكنون من مزاجنا سواء سلبًا أو إيجابًا، بسبب تأثرنا بحالتهم المزاجية وبردود أفعالهم.. التعامل الموضوعي مع الآخر، يعني أننا استطعنا أن نترك مسافة فيما بيننا، مسافة داخلية كي لا يملأ الضجيج عقولنا ويتعكّر صفاء قلوبنا..
النية الحسنة :
النية الحسنة أو حسن الظن بالطرف الآخر في العلاقة من خصائص التواصل الجيد، أي تجنب تفسير تصرفات الآخر نحونا بصورة سلبية. على سبيل المثال الآخر قصد أن يهيننا، أو قصد أن يتجاهلنا، أو قصد أن يرفضنا ويحط من قيمتنا .. أي هنا نفهم تصرفاته الغامضة أو غير المتوقعة بالنسبة لنا على أنها مقصودة. وفي هذه الحالة تميل ردود أفعالنا للعدوانية أو للانسحاب..
النية الحسنة أو حسن الظن بالطرف الآخر في العلاقة من خصائص التواصل الجيد، أي تجنب تفسير تصرفات الآخر نحونا بصورة سلبية. على سبيل المثال الآخر قصد أن يهيننا، أو قصد أن يتجاهلنا، أو قصد أن يرفضنا ويحط من قيمتنا .. أي هنا نفهم تصرفاته الغامضة أو غير المتوقعة بالنسبة لنا على أنها مقصودة. وفي هذه الحالة تميل ردود أفعالنا للعدوانية أو للانسحاب..
عندما تكون نيتنا حسنة نميل إلى أن نفصل النية عن السلوك، وندرك أن وراء كل سلوك نية إيجابية.. حينئذ عندما نشك في أن أحدًا أخطأ في حقنا نميل للتسامح والعفو والتغاضي والتماس العذر له.. وتغلب على ردود أفعالنا حينئذ الحكمة والتعقل...
الثقة بالنفس :
أنفسنا أمانة لدينا ، فعلينا أن نجعلها محور الحب والرعاية والاهتمام والتقدير، ونعمل على مراقبتها لاكتشاف نقاط قوتها ونقاط ضعفها ، لنفهمها ونعرفها ونصادقها..
بمراقبتنا لأنفسنا نعرفها. نراقب ردود أفعالنا وقراراتنا وأفكارنا ومشاعرنا وأحاسيس قلوبنا.. نراقب الإشارات التي تصدر من أجسادنا من ألم أو راحة إنها إشارات لا تكذب ولا تراوغ.. إنها إشارات توضح لنا الخلل الموجود في طريقتنا لمواجهة أحداث الحياة ومواجهة أنفسنا، وعندما ننصت لها حينئذ سوف نعمل تلقائيًا على تصحيح الخلل الذي نتج عن حقد، أو غضب دفين، أو سوء تواصل مع أشخاص مقرّبين، أو عادات سيئة نمارسها باستمرار..
الثقة بالنفس خاصية مكتسبة، نكتسبها من خلال عملنا المتواصل الهادف إلى تطوير ذواتنا، لنعيش السكينة والأمان الداخلي، وليتميز كل فرد منا بكونه هو، لا شخصا آخر..
لا للمقارنة بالآخرين :
بما أن كلا منا بصمة لا مثيل له، لذلك أن نقارن صفاتنا أو خصائص شخصياتنا مع صفات وخصائص الآخرين قد يكون أمرًا مُحبطًا ومُسيئا لنا .. على سبيل المثال: عندما أُحدث نفسي بقولي إنّ فلانة أجمل مني، أو إنّ فلانًا أكثر رفاهية أو أكثر أناقة أو أكثر حظا مني.. معنى ذلك أنني أقارن ما لدي بما لدى الآخرين..
فرغم أننا نتأثر ونؤثر بالآخرين المحيطين بنا، ونتعلم من النماذج الذين نتخذهم قدوة لنا، ونتعلم كذلك بالتقليد .. إلا أنّ المقارنة تجعلنا إما أن نرى للآخر أفضلية علينا مما يُشعرنا بالنقص، أو نراه دوننا فنشعر بالغرور والكبر ..
عدم التضحية بالنفس :
المطلوب منا داخل العلاقات الإنسانية تحري التوازن، أي مسك العصا من الوسط، لا نسيئ للآخرين، ولا نقبل أن نقع ضحية المسيئين إلينا..
وللوصول إلى هذا التوازن علينا أن نتحلى بالثقة بالنفس التي تسمح لنا بحماية حدودنا، وحماية كل ما يمت لأنفسنا بصلة، من مال وجهد ووقت وأشخاص مقربين.. دون أن نسيئ للآخر أو نخسر المواقف.
عندما نكون ضحايا للآخرين نشعر بالعجز وقلة الحيلة، فنفقد حريتنا ونتخلى عن قوتنا لأشخاص لا يهتمون بمصالحنا وهذا أمر خطير، خاصة عندما نسمح لهم بالسيطرة على مشاعرنا والاستسلام لهم. والسؤال الذي يطرح نفسه، ما هي الأساليب التي تساعدنا على ألا نعيش ضحايا لآخرين؟
أهم الأساليب التي تجعلنا نعيش التوازن دون أن نخسر أنفسنا هو: قول كلمة (لا) بحزم واحترام للآخر. قول كلمة (لا) تساعدنا على حماية حدودنا ومنع الآخرين من اختراقها والإساءة إلينا. إنها الكلمة التي توضح لهم الخطوط الحمراء التي يجب ألا يتجاوزوها أثناء تعاملهم معنا، وتوضح لهم ما نريد أو ما لا نريد فالهدف من هذه الكلمة، هو أن نحمي أنفسنا من أن نكون ضحايا للآخرين بالدفاع عن حدودنا..
التخلي عن أسلوب لوم الآخرين يساعدنا على ألا نكون ضحايا لهم. فالانشغال بالآخر المسيء أو الظالم لنا (حسب إدراكنا) يُؤثر سلبًا على طاقتنا، لأننا ننشغل بطرح تساؤلات على أنفسنا لا جواب لها من قبيل: لماذا فلان أساء لي؟ ماذا فعلت له كي يتصرف معي بهذا الشكل؟ وكيف سمحت له نفسه بذلك؟ نلوم شخصا لاعتقادنا أنه استخف بنا أو أهاننا، أي نلوم شخصا آخر على ما نواجهه من متاعب، وهذا في حد ذاته مشكلة، عندما نعتقد أن سبب ألمنا يقع خارج أنفسنا، فنبحث عن تفسير لهذا الألم ونلجأ للوم..
من أكثر الأساليب التي يلجأ لها الشخص الضحية، أساليب الشكوى والتذمر، الشكوى من الناس ومن الأوضاع ومن الظروف.. وفي اعتقاده أنه لا حول له ولا قوة، وأنّ الآخر مسيطر عليه ومتحكم فيه.. فلا يعيش الحرية الحقيقية التي هي من مبادئ فطرته السليمة. فالشكوى هي تركيز على السلبيات، لأنها من جهة تعود بالمزيد من السلبيات على الشخص نفسه، ومن جهة أخرى تمتص طاقة الطرف الآخر فيصبح أكثر ميلًا لممارسة العنف...
الإيمان بأن القوة والتغيير ينبعان من الداخل :
من خصائص مهارات التواصل الإيمان بأن القوة تنبع من الداخل وكذلك التغيير ينبع من الداخل. فنحن نمتلك إرادة حرة، وما يُحزننا أو يُفرحنا، وما يُؤلمنا أو يُريحنا، هو ما يصدر عنا من مشاعر وكلمات وتوقعات وأفكار وأحاسيس.. لذلك إيماننا هذا يمنعنا من إسقاط عيوبنا على الآخرين، بل نعتبره تحديًّا لنا، فهدفنا أن نربح أنفسنا دون أن نخسر الآخر.. وعندما نشعر بالاستفزاز من موقف أو سلوك صدر عن الآخر، نعود ونسأل أنفسنا ، لماذا شعرنا بالاستفزاز؟ ما هي نقاط ضعفنا التي طفت على السطح ؟ لنعمل على مواجهتها وتحويلها من نقطة ضعف تعمل ضدنا إلى نقطة قوة تعمل لصالحنا.. فالآخر مرآة لنا نرى فيه محاسننا وعيوبنا، إن أحسنا إليه نكون قد أحسنا إلى أنفسنا، وإن أسأنا إليه نكون قد أسأنا إلى أنفسنا..
الرضا بالواقع :
الرضا بالواقع يجعلنا نعيش السلام والأمان الداخلي، الواقع الذي لا يمكننا تفاديه أو تغييره عندما نتقبله نجذب لأنفسنا الخير من حيث لا ندري وعندما نرفضه نجذب لأنفسنا الأسوأ منه، لأن الرفض يجعل جسدنا يُطلق إشارات دالة على الاستياء والانزعاج، وهي إشارات سلبية تعيق تدفق الطاقة الكونية من خلالنا فنشعر بالألم والإحباط..
المشاكل تأتي من الرفض، والرفض هو أصل جميع الأفكار والمشاعر السلبية.. بينما مع الرضا لا توجد مشاكل نعمل ما في وسعنا والباقي بيد الله.. وفي هذه الحالة، نحن نتعامل مع خبراتنا السلبية الدفينة ببصيرة ووعي منفتح ونعرف أنفسنا أكثر..
أخذ المبادرة :
نبدأ بالسلام ونبدأ بالصلح، ونبدأ بالسير في طريق تبديد الأوهام والشكوك التي قد تملأ عقولنا، بسبب انتظارنا من الآخر (زوج أو ابن أو أخ أو صديق...) ليأخذ بادرة يبدد بها غيوم سوء تفاهم أو قطيعة رحم أو جفاء حصل بيننا وننسى أننا طرف في العلاقة ومسؤوليتنا هي أنفسنا، وقراراتنا هي اختيارنا وحريتنا في اختيار القرارات التي تجعلنا نربح أنفسنا دون أن نخسر علاقات مهمة بالنسبة إلينا..
لذلك علينا أن نبادر بقطع حبل الجفاء وسوء الظن والشك، ونبادر بمساندة الآخرين ودعمهم.. من أجل أن نحارب ضعفنا، ونكون أقوياء باختيارنا نختار أن نرى الآخرين بعين الرحمة والحب والرفق.. بعيدًا عن الكراهية والتعصب وعدم الثقة.. وبهذا الاختيار نستطيع أخذ بادرة الخير، ونتغلب على ما يجول في عقولنا من سلبيات.. إنه قرارنا.
ب - الأسلوب السينمائي
الأسلوب الثاني الذي يساعدنا على ترك مسافة بيننا وبين نتائج أعمالنا وعلاقاتنا هو الأسلوب السينمائي، أي أن نعيش الحياة وكأنها مسرحية نحن أبطال فيها.. ولكن كيف يتحقق ذلك؟تخيل مراحل حياتك التي تعيشها وكأنها مشاهد من مسرحية، أو فيلم سينمائي أنت البطل فيه، أي أنك ممثل والآخرون كذلك ممثلون.. ترى نفسك وتنتقدها ،وتقومها، وهدفك هو أن تتقن دورك في المسرحية.. أنت تستطيع فعل ذلك لكن شرط أن تفصل المشاهد الذي هو أنت عن المشاهدات، وتفصل المفكر الذي هو أنت عن الأفكار. فالمشاهدات والأفكار هي الأحداث والمواقف والقصص التي تعيشها يوميًا ، هي أدوارك التي تقوم بها داخل المسرحية.. . بينما المشاهد والمفكر هو أنت..
افصل مشاعرك، واتخذ موقف الحياد كمن يُشاهد فيلمًا.. كما لو أنك تعيش مع أحداث الفيلم وتتأثر بها، وعندما ينتهي الفيلم، تنتهي معه مشاعرك وأحاسيسك وتعود إلى نفسك وكأنك عشت للحظات أو ربما لساعات (زوبعة في فنجان)..
فأحداث الحياة تبدأ وتنتهي، أي أنّ لها بداية ولها نهاية، وعندما تعيشها بخوفك وقلقك وتوترك وألمك..، تعيشها بكل كيانك، فإنها لا محالة ستترك أثرها السلبي على نفسك وجسدك.. وأيضا عندما تتعامل مع الأحداث والمواقف دون وعي منك بمحتويات القنابل الموقوتة الدفينة فيك، فأنت لا محالة ستخسر نفسك..
لذلك عندما تفصل الحدث عن نفسك، وتنظر لنفسك كممثل في مسرحية، وهذا يحتاج إلى قرار منك، ويحتاج إلى تدريب لتتقن العادات الجديدة، فإنك سوف تعرف نفسك، وتفهم نفسك، وتراقب نفسك وكأنها منفصلة عن وعيك.. حينها ترى ما لا يمكنك أن تراه بوعيك المنغلق، الوعي المنغلق المتعلق بالأشخاص والأحداث والنتائج والأشياء..
ليس معنى أن تفصل نفسك عن الظروف والأحداث والنتائج.. أن تتجاهل وتُنكر وتُفسد حياتك، بل معناه أن تُبعد ذاتك إلى حد ما، كي لا تكون أساليب الدفاع عن النفس هي هاجسك، فتشن الحرب على من أثارك من أشخاص أو أحداث ومواقف.. وتبحث عن النية الإيجابية الكامنة وراء تصرف الآخر لتفهم الموقف بشكل محايد بشكل موضوعي، وتفهم نتائج أعمالك.. وتعي أن نتائج أعمالك ليست أنت، بل أنت الوعي الذي يرى كيفية سير الأحداث والأمور من حوله..
عليك أن تُحدد أهدافك، وتعمل وتعيش الطاقة التي تتدفق من خلالك وأنت تعمل.. قد تصل للهدف وقد لا تصل، ليس هذا هو المهم ، بل الأهم أن تعيش كل يوم من حياتك وأنت راض ومرتاح ومستمتع بما أعطاك الله من خير، وبما أعطاك من طبيعة خلابة التي هي ملكك إن رغبت في ذلك. تتمنى الخير لنفسك وللجميع، دون أن تُضحي بنفسك ودون أن تؤذي الآخر..
اجعل هدفك دائما هو أن تفهم نفسك، ليس لكي تكون الإنسان الكامل، بل لتكون أنت.. أنت الشخص المتفرد الوحيد الذي يعيش الحياة وحده ويُعاني وحده ويمرض وحده ويموت وحده ويُحاسب وحده..
تعلم عادات جيدة تساعدك على أن تتخذ موقف الحياد، وتعيش الحياة كمسرحية.. ومن أهم تلك العادات :
عادة عدم التسرع في الرد ، أعط نفسك ثواني للتفكير قبل أي رد فعل، لأن التسرع معناه أنك ترغب في الدفاع عن نفسك أو الدفاع عن وجهة نظرك.. وهذا الأسلوب يُصعد الخلافات، ويجعلك مشغولاً بالاستعداد للرد الدفاعي. يجب أن يكون هدفك فهم وجهة نظر الآخر المختلف عنك، حتى وإن كانت تعمل لغير صالحك..
تعتمد العادة الثانية على أساليب التخيل، تتخيل نفسك وحيدًا في هذا العالم، على أرض ليس فيها بشر، ولكن فيها بحر وسماء وشمس وقمر وطيور.. وأنت في هذه الحالة تتساءل عمن يحميك؟ وإلى من توجه تضرعك؟ بالتأكيد ستنظر إلى السماء وتقول: يا رب إنه صوت الفطرة التي تنادي تلقائيا من أوجدها، وتبحث عن التناغم والاندماج بالطبيعة التي هي تجلّ من تجليات الخالق سبحانه وتعالى.. وعندما تتخيل نفسك وحيدًا رغم وجود الناس من حولك، ستعاملهم بالرحمة والتسامح والحب والعطاء.. لتتقي فتنتهم لك، ولتتقي عداوتهم التي تملأ عقلك بالضجيج، وتعيش عالم الغيب عالم التناغم مع نفسك. ومع الطبيعة..
والعادة الثالثة هي أن تتخيل في قلبك غرفة (ولنسمها محرابًا) تلجأ إليها عندما تشعر بالرغبة في الخلوة مع نفسك، وتشعر بالرغبة في الابتعاد عن عالم البشر .. قبل أن تدخل الغرفة، تضع الحمولة التي تُثقل كاهلك على بابها، ثم تدخل لتتواصل مع ذاتك الحقيقية، مع جوهرك، وتستشعر وجود الله معك.. وعندما تمارسها بانتظام وتصبح عادة لديك، حينها ستمدك تلك العادة بمشاعر الأمان والسكينة وتساعدك على فهم نفسك ، ومعرفتها أكثر..
عندما نتخيل وجود مسافة بيننا وبين ما يجري لنا ومعنا.. وكأننا نتفرج على يومياتنا ونحاول أن نتقن أدوارنا، عندها سوف نشعر بالحرية الحقيقية وبالإرادة الحرة التي وهبنا الله إياها، لأننا بكل تركيزنا على تصرفات الآخرين ونواياهم، ومن ثم إسقاط عيوبنا عليهم..
الأنا الحقيقية شيء وما نمارسه شيء آخر. لنراقب الأنا الدنيوية ماذا تفعل؟ وكيف تتحدث؟ وكيف تتعامل مع الآخرين؟ نراقب الأنا الدنيوية وكأنها وهم أو سراب أو خيال، زائلة ومؤقتة وفانية.. نحمي جوهرنا منها. لأن جوهرنا يعيش النشوة مستسلما لخالقه ويعمل بمبادئ فطرتنا التي ولدنا عليها سليمة.. والأنا الدنيوية تمارس لعبة الحياة، وفي كل لحظة تتحول إلى ماض وإلى تصورات وأوهام.. والوعي يراقبها كي تتقن أدوارها ولتتقن اللعبة، وليمنعها من أن تسيطر عليه، فتملأه بالأدران... ليبقى الجوهر ثابتًا رغم تغير الأحوال والمشاهدات والأدوار..
د . فاطمة الكتاني