الاختلافات السلوكية بين الأشقاء
يحير الكثير من البشر وخاصة الآباء والأمهات ذلك الاختلاف القائم بين الأشقاء، إذ أنهم في الواقع يرثون مورثاتهم من والديهم بنفس الطريقة ويعيشون وينشؤون ويتربون بنفس الطريقة وعلى نهج نفس الوالدين، مما قد يقتضي من الناحية المنطقية معدلاً من التشابه السلوكي بين أي اثنين منهما أكثر مما هو مشاهد في حياتنا اليومية وعلى الرغم من الظاهرية المنطقية التي تحيط بذلك الاستنتاج فإنها ليست دقيقة من الناحية العلمية
الدور الوراثي في تشكيل السمات النفسية والعقلية للبشر
يرث كل جنين وقت تخلقه من تلاقح البويضة الأمومية والنطفة الأبوية 23 صبغيا من كل من والديه وباجتماع تلك المجموعتين الصبغيتين تتشكل الخلية الإلقاحية الأولى التي تحتوي على 46 صبغياً، والتي بانقساماتها المتوالية يتكامل الجنين في طريقه لأن يصبح إنساناً متكاملاً في قابل الأيام تحتوي كل من خلاياه على 46 صبغياً. وذلك التوصيف يقتضي منطقياً الالتفات إلى الحقيقة بأن الجنين وقت تخلقه يرث 23 صبغياً من الآب و 23 صبغياً من الأم وهي نصف الحمولة الصبغية في كل من خلايا الأب والأم في أي من أعضاء جسدهما باستثناء الأمشاج أي النطاف الأبوية والبويضات الأمومية.وهو ما يعني من الناحية الرياضية الاحتمالية أن يرث أي طفل لهذين الأبوين 23 صبغياً من والده تختلف عن الـ 23 صبغياً التي ورثها شقيقه من والده أيضاً الذي يمتلك 46 صبغياً يتم الاختيار منها بشكل عشوائي للـ 23 صبغياً، والتي سوف يتم توريثها لأي من أبنائه وقت الإلقاح ونفس التوصيف صحيح بالنسبة للوراثة من الأم أيضاً. وهو ما يعني بأن أي طفل يتشارك وسطياً مع أي شقيق له بما يتراوح وسطياً حول 50 % من الحمولة الوراثية مع احتمال أن يقل ذلك إلى نسبة أقل من ذلك بكثير أو يزيد عنها حسب مجموعة الصبغيات الـ 23 التي تم اختيارها عشوائياً من الأب والأم وتطابقها فيما بين هذين الشقيقين.
والاستثناء الوحيد لذلك التوصيف الأخير هو فقط في حالة التوائم الحقيقية الذين هم في الأصل نتائج انقسام خلية إلقاحية واحدة ناتجة عن تلاقح نطفة أبوية وبويضة أمومية، تم انقسامها بين الإلقاح لتعطي جنينين بدل الجنين الواحد في أكثر الأحوال شيوعاً.
بالإضافة إلى ذلك فإن عملية الإلقاح ليست عملية ميكانيكية محضة يتم فيها وراثة الصبغيات كتلة واحدة كما هي دون أي تغيير فيها، وإنما عملية معقدة تختلط فيها صبغيات الأب والأم بشكل يعيد ترتيب المورثات ومواقعها على كل صبغي ويسقط بعضاً منها، ويعيد تشكيل بعض منها فيما يدعى الطفرات السليمة والتي قد تغير بشكل يتراوح بين البسيط أو الجذري لطبيعة فعل تلك المورثة حسب مستوى إعادة تشكيلها خلال علمية اختلاط الصبغيات والتي قد تؤدي في بعض الأحيان إلى تغييرات كبيرة ينتج عنها مرض أو عدة أمراض ناجمة عن خلل وراثي لدى الطفل دون أن تكون مرضاً موجوداً بشكل مسبق لدى الأب أو الأم وتدعى حينئذ بالطفرة المرضية.
ومن ناحية أخرى فإن هناك ظاهرة مهمة تدعى الارتباط المورثي بين عدة مورثات Emergenesis قد يكون كل منها على صبغي مستقل، ولا بد من وجودها جميعاً دون استثناء لأي مورثة منها لظهور صفة وراثية أو نمط سلوكي ذي طابع وراثي لدى الطفل والكثير من السمات النفسية لدى البشر تخضع لذلك النموذج الوراثي والذي سوف ينتج اختلافاً ملحوظاً بين الأشقاء حتى لو انطووا في خلاياهم على معدل تطابق وراثي بمعدل 50% أو أكثر، فإن عدم وراثة جميع المورثات المطلوبة لإظهار صفة وراثية أو سمة نفسية ما والتي قد تكون على عدة صبغيات سوف يؤدي لاختلاف ملحوظ بين أي شقيقين.
وكمثال على تلك الصفات الوراثية المحكومة بشروط الارتباط المورثي بين عدة مورثات نشير إلى الميل للانفتاح أو الانغلاق والثبات والصبر والدأب، والمرح والتباسط، والنزعة للقيادة والانطوائية والميل للنشاط البدني، والاكتشاف لكل ما هو جديد وهو جزء أساسي من دوافع الطالب التي تقوده إلى التفوق الدراسي، والاعتداد بالنفس والبراعة اللغوية واللفظية.
دور الأسرة والمجتمع في تشكيل البنية النفسية والعقلية للطفل
كما تم الإشارة له سابقاً فإن معدل الاختراق الوراثي لأي سمة نفسية ونموذج سلوكي يتراوح حوالي 50% يكون فيه العامل الوراثي مسؤولاً بتلك النسبة عن هذه السمة النفسية أو تلك في أي إنسان والباقي يكون عائداً لتأثير البيئة والمحيط الاجتماعي الذي ينشأ فيه الإنسان طفلاً ويافعاً قبل أن تتكامل شخصيته.
وعلى عكس الاعتقاد السائد بأن الدور الأساسي الذي تشغله البيئة والمحيط الاجتماعي في تشكيل شخصية الإنسان عائد لما يتلاقاه تربوياً في أسرته الصغيرة، فإن نتائج الأبحاث العلمية في حقل علم الوراثة السلوكي Behavioural Genetics تشير إلى تواضع تأثير ناتج التربية في محيط الأسرة مقارنة بالدور الكبير الذي يلعبه المحيط الاجتماعي الأكبر، وبشكل أكثر تدقيقاً لنتاج التجارب الشخصية الخاصة التي تمر في حياة الطفل خلال عملية تواصله مع المحيط الاجتماعي الأوسع الذي يعيش فيه خارج شرنقة الأسرة الضيقة سواء كان في المدرسة أو الشارع أو حتى ما يتلاقاه عبر وسائل الترفيه والإعلام والألعاب الإلكترونية وحتى وسائل التواصل الاجتماعي التي ينخرط بها.
إن الإنسان الأكثر قدرة على التكيف مع شروط حياته وظروفها البيئية هو الإنسان الذي يتعلم من تجاربه بشكل حاذق دون أن يبقى متمترساً في ما تعلمه من أبويه أو أفراد أسرته الأكبر منه لاحتمال عدم كفاءة وصفاتهم في معالجة المشاكل والعقبات الناجمة عن تغاير الظروف البيئية واحتمالاتها المعقدة التي يوجهها كل فرد بعينه بشكل فريد خلال سيرورة حياته وهو ما كانت الحال عليه بشكل شبه مطلق خلال رحلة البشر قديما والتي لا تمثل المرحلة المدنية الراهنة.
وذلك الاستنتاج الأخير يشير بأن التفارق السلوكي والنفسي المشاهد بين الأشقاء عائد لاختلاف ما ورثوه من والديهم وأيضاً لاختلاف تجاربهم الشخصية التي مثلت خلاصتهم الاستنتاجية للطرق الأكثر كفاءة للتكيف مع متطلبات وشروط محيطهم الاجتماعي الأكبر من حدود الأسرة الصغيرة
ظاهرة المورثات ذات الوجوه المتعددة
هناك العديد من المورثات التي تساهم في صياغة وتشكيل النمط السلوكي لدى الإنسان والتي لكل منها عدة أنماط فرعية لا تغير من وظيفة المورثة بشكل عام وإنما تغير مستوى استجابتها عند تغير الظروف البيئية التي تحيط بالعضوية الموجودة فيها. وكمثال على ذلك نشير إلى مورثة شائعة للناقل العصبي السيروتونين والتي لها نمطان لا يختلفان فيما ينتجانه في الأحوال الاعتيادية من سيروتونين في الدماغ. ولكن عند تعرض الإنسان لشدة نفسية فإن أحد نمطيها يستمر بالعمل طبيعياً في دماغ صاحبه إن كان هو النمط الذي ورثه من والديه، أو إن كان النمط الآخر هو ما قد ورثه فإنه سوف يكون عرضة للإصابة بمرض الاكتتاب بنسبة كبيرة وذلك نظراً لأن النمط الثاني من تلك المورثة يصبح أقل قدرة على إفراز السيروتونين في الدماغ عند تعرض حامل ذلك النمط إلى شدة نفسية.دور الأسرة التربوي الحقيقي
إذا كان الدور الأساسي والأكبر في تشكيل أنماط السلوك والنزعات النفسية لدى الطفل عائد إلى تجارب ذلك الطفل في سياق تفاعله مع محيطه الاجتماعي الأكبر، فإن ذلك لا يعني على الإطلاق غياب دور الأسرة التربوي، حيث تشير الأبحاث إلى أن دور الأسرة الأهم يكمن في مساعدة الطفل على تشكيل منظومة معتقداته الفكرية، وأدواته في تفسير علاقته وتفاعله مع من حوله، واستشرابه لمعايير الصواب والخطأ، ومبادئ مقاربة الحياة بشكل أخلاقي.وهي معادلة مرهفة قد تقتضي إعادة صياغة أهداف الأسرة التربوية من مطالبة الطفل بالسير على خطى والديه سلوكياً إلى محاولة تمكين الطفل من مفاتيح تقييم سلوكه الذاتي وسلوك الآخرين وكل تفاعلاته مع محيطه الاجتماعي بشكل عاقل يمكنه من تحليل نتائج استخلاصاته من تجاربه الشخصية في سياق تلك التفاعلات بشكل أكثر فائدة وعمقاً ويضعه على طريق الوصول إلى الاستنتاجات الصحيحة بذاته بدل أن يتم تلقينه ما يجب أن يقوم به في كل آن وحين.
وهو ما قد يعني ضرورة إعادة تبئير الهدف التربوي الأول للأسرة ليرقى من مستوى التلقين إلى مستوى السعي الدؤوب لتفعيل قدرات العقل المنفتح الحر التحليلية والنقدية في مناخ يتيح لذلك العقل الوصول إلى استنتاجاته الخاصة بنفسه، ويمكن صاحبه من الولوج إلى لج الحياة متسلحاً بأدوات التعقل والرشاد التي تعلمها في أسرته والتي لا بد أن تسنده حينما يضطر لأن يقلع شوك تجاربه الخاصة في سياق حياته بيديه ، و هي الأدوات التي قد تنير له طرقاً ومخارج للابتعاد المتعقل عن الشوك بكليته إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وذلك الطرح قد يقتضي إعادة تعريف الدور التربوي لكل أم أو أب من أن يكون المثل الأعلى الذي لا بد من السير على نهجه واتباع نصائحه وتوجيهاته بحذافيرها، ليكون معلم التفكير الحر القادر على تقييم سلوك ذاته وسلوك الآخرين ونتائج كل منها وتحليلها وفرز الغث عن السمين منها