مربع البحث

السلوك السوي والسلوك الشاذ

السلوك السوي والسلوك الشاذ





ليس من السهل تحديد الخط الفاصل بين السلوك السوي والسلوك الشاذ . فهناك أكثر من تعريف للسلوك الشاذ وأكثر من معيار للتمييز بينه وبين السلوك السوي . وكما سيتضح لنا بعد قليل ، فجميع المعايير المستخدمة بهذا الشأن فيها مواطن ضعف ، مما يجعل الاعتماد على أي منها دون أخذ المعايير الأخرى بعين الاهتمام أمراً غير مناسب

ولعل من المناسب البدء بالإشارة إلى أننا نقول إن فلاناً من الناس لديه مشكلة سلوكية أو أن سلوكه (شاذ) بناء على ما يفعله وليس بناء على اضطرابات نفسية خفية. وبالطبع ، تختلف نظريات علم النفس اختلافاً كبيراً في تعريفها وتفسيرها للسلوك الشاذ ، فمعظم نظريات علم النفس التقليدية تتبنى النموذج الطبي في تفسير اللاسواء. فنحن نجد هذه النظريات تتحدث عن أعراض وأمراض نفسية ، وكلها مصطلحات مأخوذة من النموذج الطبي وتشير إلى أن الاضطراب أو الخلل هو في شخصية الفرد .

أما تعديل السلوك فيعتقد أن السلوك الشاذ يحدث نتيجة لخلل في عملية الإشراط (التعلم) ، وغالباً ما يكون ذلك على شكل تعزيز السلوك غير التكيفي وعلى تعزيز السلوك التكيفي . بمعنى آخر، ففي تعديل السلوك يعد السلوك هو الشاذ وليسر الفرد الذي صدر عنه ذلك السلوك .

و يميز السلوك الشاذ عن السلوك السوي هو شدة السلوك أو تكراره ولير نوعه. فما يجعل السلوك شاذاً في كثير من الأحيان هو أن معدل حدوثه أقل بكثير مما هو مطلوب ، أو أنه لا يحدث بالمرة Behavioral Deficit أو أن معدل حدوثه أكثر بكثير مما هو متوقع (Behavioral Excess ) ، أو أن معدل حدوثه عادي ولكنه يحدث في المكان أو الزمان غير المناسب (Behavioral Inappropriateness)

وهكذا ، فالتمييز بين السلوك الشاذ والسلوك السوي في تعديل السلوك يشتمل على تحديد ما يفعله الإنسان . ومن هذا المنظار، فسلوك الشخص العادي يختلف عن سلوك الشخص غير العادي من حيث كميته أومدة حدوثه ، أو طوبوغرافيته أو شدته ، أو كمونه ، فما الذي تعنيه أبعاد السلوك هذه ؟

(أ) تكرار السلوك :
إن ما نعنيه بتكرار السلوك (Frequency) هو عدد المرات التي يحدث فيه السلوك في فترة زمنية معينة ، فمعظم الأطفال مثلاً يتشاجرون من حين إلى آخر إلا أن البعض يتشاجر مع الآخرين بشكل متكرر . كذلك فمعظم الناس يغسل أيديهم يومياً عدة مرات ، ولكن عدداً قليلاً منهم قد يغسلون أيديهم مرات عديدة في الساعة الواحدة. ومعظم الأطفال يحاولون الفوز بانتباه معلميهم ، ولكن البعض يحاول نيل انتباه المعلم بتواصل من خلال الطرق غير المناسبة . في هذه الحالات ، نقول إن هذه السلوكات غير عادية أو شاذة بسبب معدل حدوثها

(ب) مدة حدوث السلوك :
بعض السلوكات تعد غير عادية لأن مدة حدوثها ( Duration) غير عادية فهي قد تستمر مدة أطول بكثير أو أقل بكثير مما هو عادي . فمعظم الطلاب قد لا يستطيعون التركيز أحياناً ولكن بعضهم لا يستطيع التركيز لأكثر من ثوان معدودة . وكلنا قد يغضب وغضبنا قد يستمر بضع دقائق ، ولكن ثورة الغضب قد تستمر لدى بعضنا لمدة ساعة أو أكثر دائماً. وجميع الأطفال يبكون ولكن بعض الأطفال يبكون عدة ساعات في اليوم الواحد . لذا ، يوصف السلوك بأنه غير عادي إذا انحرف من حيث مدته

(جـ) طوبوغرافية السلوك :
المقصود بطوغرافية السلوك Topography هو الشكل الذي يأخذه . فالأطفال قد لا يكتبون بوضوح أحياناً ولكن بعضهم يعاني من هذه المشكلة بشكل متواصل ، فطريقة كتابتهم تختلف تماماً عن طرق كتابة الآخرين ، وبالمثل فقد يعكس الطفل الأرقام ، وما إلى ذلك

(د) شدة السلوك :
كذلك يعد السلوك شاذاً إذا كانت شدته (Magnitude) غير عادية . فالسلوك قد يكون قوياً جداً أو قد يكون ضعيفاً جداً. فجميع الأطفال قد يتحدثون بصوت غير مسموع أحياناً ، ولكن بعض الأطفال لا يتحدثون بصوت مسموع أبداً أبداً . كذلك فنحن نعبر عن عدم ارتياحنا للمواقف المزعجة ، ولكن بعضنا يفقد صوابه لأتفه الأسباب

(هـ) كمون السلوك :
يشير كمون السلوك Latencey إلى الفترة الزمنية التي تمر بين المثير وحدوث السلوك ، فقد تمر عدة دقائق قبل أن يستجيب الطالب لتعليمات المعلم ، وقد يلتزم الطفل الصمت فترة زمنية طويلة نسبياً قبل أن يجيب عن سؤال معين .


وهناك معايير أخرى للتمييز بين السلوك الشاذ والسلوك السوي ، ولكل من هذه المعايير نواقصه ، فهي معايير نسبية يحددها المجتمع والزمان الذي نعيش فيه .

(1) المعيار الاجتماعي 
أحد المعايير المستخدمة للتمييز بين السلوك الشاذ والسلوك السوي هو معيار العادات والتقاليد السائدة في المجتمع ، فلكل مجتمع عاداته وتقاليده وقيمه وهذه العادات والتقاليد تضع الخط الفاصل بين ما هو مقبول وما هو غير مقبول في ذلك المجتمع . 

ويتناول هذا المعيار جوانب الحياة المختلفة بما في ذلك ماذا نلبس؟ ، وماذا نأكل؟ ، وكيف نتعامل مع الآخرين ؟ ، الخ . . وتختلف التقاليد من مجتمع إلى آخر ومن زمن إلى آخر. ففي حين تنظر بعض المجتمعات إلى بعض السلوكات على أنها عادية ومقبولة ، تنظر مجتمعات أخرى إلى السلوكات نفسها على أنها الشذوذ بعينه ، وبالرغم من أن هذا المعيار هو الأكثر شيوعاً بين المعايير المختلفة إلا أن له نواقصه ولعل أهمها هي أن على أفراد المجتمع الامتثال للتقاليد السائدة بغض النظر عن كونها صحيحة أو خاطئة ، ومن لا يمتثل للتقاليد فهو شاذ .

(2) الندرة الإحصائية 
أما المعيار الثاني فهو الندرة الإحصائية (Statistical Rarity) ، فيقال إن سلوك الفرد شاذ إذا انحرف بشكل ملحوظ عن المتوسط الحسابي (ما يفعله معظم الناس) . فالأفراد الذين تشبه سلوكاتهم سلوكات أغلبية الناس في المجتمع يوصفون بأنهم عاديون ، والأفراد الذين تختلف سلوكاتهم عن الأغلبية بشكل ملحوظ يوصفون بأنهم غير عاديين . فعلى سبيل المثال ، إذا كان أداء الطفل على إحدى اختبارات الذكاء أقل من المتوسط بشكل ملحوظ (انحرافين معياريين دون المتوسط) يقال إن أداءه غير عادي ويوصف الطفل بأنه متخلف عقلياً .

إن لهذا المعيار أيضاً نواقص عديدة ، فبغض النظر عن طبيعة السلوك فهو يعد سلوكاً عادياً إذا كان شائعاً إحصائياً، وهو يعد سلوكاً غير عادي إذا كان نادراً إحصائياً . بمعنى آخر ، إن هذا المعيار لا يأخذ القيم بعين الإهتمام ، فأي انحراف عما هو غير عادي شذوذ حتى لو كان هذا الانحراف ذا قيمة ، فالتفوق العقلي استناداً إلى هذا المعيار يعد طبيعة غير عادية

(3) المعيار الذاتي
أما المعيار الثالث فهو المعيار الذاتي، أي شعور الفرد أو عدم شعوره بالرضا عن سلوکه (Personal Discomfort) . هذا المعيار يشتمل على حكم الفرد نفسه على سلوكه . فإذا كان راضياً عن سلوكه فليس لديه مشكلة ؛ ونتيجة لذلك فلا يرى أنه بحاجة إلى معالجة ، أما إذا كان غير راض عن سلوكه فإن لديه مشكلة ولذلك فهو بحاجة إلى معالجة .

إن نواقص هذا المعيار كثيرة ولعل أهمها أن الفرد قد يكون لديه سلوكات شاذة ولكنه راض عنها تماماً. فإذا كان الفرد عدوانياً جداً نحو الآخرين ولكنه لا يشعر بالانزعاج من ذلك ، فهل يعني أن سلوكه عادي؟

(4) التكيف النفسي المثالي 
المعيار الأخير هو الانحراف عن الصحة النفسية المثالية (Deviation From Ideal Mental Health) . في هذه الحالة يتم الحكم على السلوك في ضوء ما تقوله نظريات علم النفس عن التكيف النفسى المثالي (كذلك الذي تقترحه النظرية الإنسانية مثلاً). ولعل أهم نواقص هذا المعيار تتمثل في تجاهل حقيقة أن الفرد الذي لا يحقق التكيف المثالي ليس شخصاً غير عادي بالضرورة ، وأن ذلك لا يعني أن لديه مشكلة بحاجة إلى علاج .

بمعنى آخر ، فهذا المعيار قد يجعل من معظم الناس أناساً غير عاديين ، إذ أن الكمال ليس من صفات البشر . والأكثر من ذلك ، هو أن هذا المعيار قد يولد لدى الإنسان شعوراً بالعجز حتى ولو لم يكن لديه مشكلات نفسية ، فمحاولة الفرد باستمرار تحقيق ما هو مثالي قد تخلق لديه مشكلات مختلفة .

تعليقات




    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -