مربع البحث

نشأة القياس العقلي وتطوره

نشأة القياس العقلي وتطوره






الوظيفة الأساسية للاختبارات النفسية، هي قياس الفروق بين الأفراد، أو بين استجابات نفس الفرد في ظروف مختلفة. وقد كانت المشكلة الأولى، التي أدت إلى نشأة القياس النفسي، الحاجة إلى وسيلة للكشف عن ضعاف العقول، وعلى الرغم من أن القياس له تاريخ قديم، ربما يرجع إلى اليونانيين القدماء، حيث كان يستخدم في العملية التربوية، إلا أن نشأة القياس النفسي المعاصر يمكن تتبعها ابتداء من القرن التاسع عشر.

شهد القرن التاسع عشر اهتماما واضحا بالمتخلفين عقليا والمرضى العقليين. ومن زيادة الاهتمام بتوفير أساليب الرعاية المناسبة لهم، ظهرت الحاجة إلى وسيلة موحدة، يمكن استخدامها في التعرف على هؤلاء الأفراد وتصنيفهم. فقد كان من الضروري التمييز بين المرضى العقليين، وهم أولئك الذين يظهرون اضطرابا انفعاليا قد يكون مصحوبا بتدهور في القدرة العقلية، وبين ضعاف العقول، وهم الذين يتميزون بتخلف عقلي لازمهم منذ الميلاد أو منذ الطفولة المبكرة. 

ولعل أول تمييز واضح بين هاتين المجموعتين، ما نجده في كتاب من مجلدين، نشره الطبيب الفرنسي اسكیرول عام 1838، فقد كرس في كتابه هذا ما يزيد على مائة صفحة لضعاف العقول وميز بينهم وبين مرضى العقول. كما أنه ذكر أيضا وجود مستويات متعددة ومتدرجة للضعف العقلي، تمتد على تدریج مستمر، ابتداء من الأسوياء، حتى أدنى درجات الضعف العقلي. وقد استند اسكیرول في هذا التمييز على المقاييس الشبيهة بمقاييس علم الفراسة، مثل شكل الجمجمة وحجمها ونسبتها إلى الجسم. إلا أنه توصل في النهاية، إلى أن استخدام الفرد للغة يعد أفضل معيار لتحديد مستواه العقلي

ويلهلم فوندت Wilhelm Wundt

عندما أنشأ فوندت أول معمل لعلم النفس عام 1879، كان اهتمامه هو وتلاميذه منصبا على اكتشاف القوانين العامة التي يخضع لها السلوك، واهتموا بدراسة الاحساسات السمعية والبصرية وزمن الرجع، وغير ذلك من الظاهرات النفسية البسيطة. ولذلك لم يهتم علماء النفس التجريبيون الأوائل بدراسة الفروق الفردية، إذ كان هدفهم، الكشف عن القوانين العامة التي يخضع لها كل الأفراد، بغض النظر عما يلاحظ بينهم من فروق. 

ومن هنا كانوا ينظرون إلى هذه الفروق بين الأفراد، على أنها نوع من الأخطاء التجريبية ينبغي التقليل من أثرها بقدر الإمكان. لذلك فقد حول قیام علم النفس التجريي الاهتمام بعيدا عن دراسة الفروق الفردية، إلا أنه مع ذلك قد ساعد في نمو البحث العلمي، بما أثبته من أن الظاهرات النفسية يمكن أن تخضع للقياس الكمي، وأن هذا ضروري لنمو النظريات السيكولوجية، كما أن اهتمامه بالنواحي الحسية قد انعكس أثره على طبيعة الاختبارات النفسية الأولى .

فرانسيس جالتون Francis Galton

اهتم جالتون -وهو أحد تلاميذ دارون- بدراسة الوراثة، وقد نشر عام 1869 كتابه "عبقري بالوراثة ". وقد حاول فيه أن يثبت وراثة المواهب المختلفة، باستخدام طريقة تاريخ العائلة. وفي أثناء بحثه في الوراثة، أحس بالحاجة إلى قياس خصائص الأفراد الأقرباء وغير الأقرباء، فبهذه الطريقة فقد يمكن أن نعرف درجة التشابه بين الأباء والأبناء، أو بين الأخوة والأخوات، أو بين التوائم. لذلك أعد جالتون بعض الطرق لقياس قدرات التمييز الحسي، مثل حدة الإبصار والسمع عند الأفراد، وكذلك قدراتهم الحركية وغيرها من العمليات البسيطة. 

وكان يعتقد أن اختبارات التمييز الحسي يمكن أن تستخدم كوسيلة للحكم على ذكاء الفرد، ذلك أن معلوماتنا عن العالم الخارجي تصل إلينا عن طريق الحواس، كما أن ملاحظته عن البلهاء، من حيث أن لديهم قصورا في القدرة على التمييز بين الحرارة والبرودة والألم، قد دعم عنده هذا الاعتقاد.

كذلك يعتبر جالتون أول من استخدم مقاییس التقدير وطرق الاستفتاء وأسلوب التداعي الحر في أهداف متعددة. وكان إسهامه الكبير في أنه درس الخواص الإحصائية للفروق الفردية، وأوضح أن قياس ذكاء أي فرد لا يتم إلا بمقارنته بمتوسط ذكاء الآخرين. وكان أهم ما اكتشفه جالتون، أن الصفات العقلية المختلفة تخضع في توزيعها بين الناس للصورة الاعتدالية، بمعنى أن المستويات المتوسطة لأية صفة من الصفات هي أكثر المستويات انتشارا، بينما المستويات العليا والدنيا أقل انتشارا، وكان أول من استخدم المقياس الميئيني وكذلك الارتباط في دراسة الفروق الفردية. بذلك وضع جالتون القواعد الأساسية للبحث العلمي في الفروق الفردية.

جايمس ماكين كاتل James McKeen Cattell

احتل جيمس ماكين كاتل مكانة بارزة في تطور القياس النفسي، فقد كان أول من استخدم مصطلح الاختبار العقلي، عندما نشر مقاله عام 1895، والذي وصف فيه مجموعة من الاختبارات التي كانت تطبق على الطلاب سنويا، لتحديد مستواهم العقلي. وكانت هذه الاختبارات تطبق بطريقة فردية، وتشمل مقاييس للقوة العضلية وسرعة الحركة وحدة الإبصار والسمع وزمن الرجع وتمييز الأوزان وغيرها. فقد كان، مثله في ذلك مثل جالتون، يعتقد أن قياس الوظائف العقلية يمكن أن يتم عن طريق قياس الوظائف الحسية البسيطة مثل زمن الرجع والتمييز الحسي. 

وقد فضل هذه الاختبارات، نتيجة لأن هذه الوظائف يمكن أن تقاس بدقة، بينما كان إعداد مقاييس موضوعية للوظائف المعقدة يبدو أمرا مستحيلا في ذلك الوقت. على أن اختبارات كاتل، وما شابهها من اختبارات انتشر استخدامها في أواخر القرن التاسع عشر في المدارس والكليات، لم تثبت جدارتها عندما خضعت للتقييم. فلم يوجد إلا اتفاق ضئيل بين أداء الفرد في الاختبارات المختلفة، كما لم يوجد أي ارتباط بينها وبين تقديرات مستقلة للمستوى العقلي، اعتمدت على تقديرات المدرسين.

ألفريد بينيه Alfred Binet ونشأة اختبارات الذكاء

في عام 1895 ظهر مقال لبينيه وهنري، نقدا فيه الاختبارات المستعملة في قياس الذكاء على أساس أنها حسية في معظمها، كما أنها تركز أكثر من اللازم على القدرات البسيطة المتخصصة. وقد اقترحا في مقالهما قائمة وافية ومتنوعة من الاختبارات، تشمل وظائف عقلية مختلفة، مثل التذكر والتخيل والانتباه والفهم وكثير غيرها. وكان لهذا الاتجاه أثره في إعداد مقياس بينية المشهور للذكاء فيما بعد. 

كان ألفريد بينيه عالما فرنسيا فذا، بدأ تدريبه في ميدان الطب، ثم أصبح من أشهر علماء النفس في عصره، وقد بدا عالما تجريبيا، واهتم بدراسة العمليات العقلية المعرفية، ثم كرس هو ومعاونوه جهدهم سنوات طويلة، للبحث في طرق قياس الذكاء. وقد بذل محاولات عديدة بما فيها قياس الخصائص الحسية وتحليل خط اليد، ولكن نتائج بحوثه أقنعته بأن أفضل السبل هو قياس الوظائف العقلية العليا. وقد نشا اهتمامه بالقياس العقلي أثناء عمله مع الأطفال في مدارس باريس، إذ لاحظ الفروق الكبيرة بين الأطفال في القدرة على التعلم، وكان مقتنعا بأنه يمكن إعداد اختبارات بسيطة لقياس هذه الفروق.

وفي عام 1904 شكلت وزارة المعارف الفرنسية لجنة لدراسة طرق تربية الأطفال المتخلفين دراسيا بمدارس باريس، وكلف بينيه بالتعاون مع الطبيب الفرنسي سیمون بدراسة الطرق، التي يمكن أن تستخدم في تصنيف الأطفال الذين يتميزون ببطء في التعلم. وكان نتيجة لذلك ظهور أول مقياس للذكاء، وهو ما عرف باسم مقیاس بینیه - سیمون، عام 1905. وبذلك كان ظهور أول مقياس للذكاء نتيجة لحاجة عملية بحتة. 

وكان مقیاس بینیه - سیمون في صورته الأولى يتكون من 30 اختبارا او مشكلة رتبت تصاعديا وفق مستويات صعوبتها. وقد تم تحديد مستوى صعوبة الاختبارات بطريقة بدائية، عن طريق تطبيقها على عينة من 50 طفلا عاديا تتراوح أعمارهم بين 3 و11 سنة. وقد صممت الاختبارات بحيث تغطي مجموعة كبيرة من الوظائف، مع التركيز على الحكم والفهم والاستدلال، التي اعتقد بينيه أنها مكونات أساسية للذكاء

وفي عام 1908 ظهرت صورة أخرى معدلة من مقیاس بینیه سیمون، زيد فيها عدد الاختبارات، وتم حذف بعض الاختبارات التي كانت موجودة في المقياس الأول، والتي لم تثبت صلاحيتها، وقسمت الاختبارات إلى مستويات عمرية متدرجة. ثم ظهر تعديل آخر للمقياس عام 1911 قام به بينيه ونشره بأسمه منفردا، وأضاف إليه اختبارات جديدة وأجرى عليه بعض التعديلات.

وقد أدى ظهور هذا المقياس إلى جذب انتباه علماء النفس في العالم، فظهرت له ترجمات وتعديلات بلغات مختلفة، لعل أشهرها تعديل تيرمان الذي عرف باسم ستانفورد - بينيه، والذي ظهر عام 1916.

الاختبارات الجمعية

إلا أن اختبار بينيه وتعديلاته كلها مقاییس فردية، بمعنى أنها لا يمكن تطبيقها بواسطة فاحص واحد إلا على فرد واحد في نفس الوقت. فكثير من الأسئلة التي يتضمنها تتطلب إجابات شفوية أو معالجة يدوية لبعض الأشياء، ومن ثم فإن هذه الاختبارات لا تصلح للتطبيق على الجماعات. 

ومن هنا ظهرت اختبارات الذكاء الجمعية، التي يمكن تطبيقها بواسطة فاحص واحد على مجموعة من الأفراد في نفس الوقت، وكان ظهورها شأنها في ذلك شأن اختبار بينيه الأول- نتيجة لحاجة عملية. ففي الحرب العالمية الأولى ظهرت الحاجة إلى إعداد اختبارات يمكن استخدامها في تصنيف المجندين وتوزيعهم على أفرع القوات المسلحة الأمريكية، وفقا لمستوياتهم العقلية. 

ولهذا عكف مجموعة من علماء النفس على وضع اختبار جمعي للذكاء وظهر نتيجة لذلك أو اختبارين جمعيين للذكاء: اختبار ألفا واختبار بيتا عام 1917. وقد أعد اختبار الفا لقياس ذکاء المواطنين الأمريكيين الذين يكتبون ويقرأون باللغة الإنجليزية، اما اختبار بيتا، فقد اعد لغير الناطقين باللغة الإنجليزية والأميين. وبعد نشر هذه الاختبارات نشطت حركة القياس العقلي، وأعدت اختبارات جمعية كثيرة.

إلا أن الحاجة العملية دفعت أيضا إلى ظهور نوع آخر من الاختبارات العقلية، وهي اختبارات الاستعدادات، لاستخدامها في عمليات انتقاء وتوجيه العمال الصناعيين. وقد ساعد على ذلك النشاط الواضح في البحث الإحصائي، وتطور أساليبه، وظهور طرق التحليل العاملي. فقد ساعدت هذه العوامل على نشأة بطاريات اختبارات الاستعدادات المختلفة، وأخذت حركة القياس العقلي في النمو السريع في مختلف أنحاء العالم.

اختبارات الشخصية

أما بالنسبة لاختبارات الشخصية، فقد نشأت متأخرة نوعا ما عن اختبارات الذكاء، وأول اختبار ظهر في هذا المجال، هو استمارة البيانات الشخصية لودوورث، وقد أعدت هذه الاستمارة عام 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى، عندما ظهرت الحاجة إلى تمييز أولئك الجنود، الذين عندهم قابلية للانهيار أثناء القتال. وتعتبر هذه الاستمارة مصدرا أشتقت منه اختبارات كثيرة للشخصية والتوافق.

ثم ظهرت بعد ذلك الأساليب الإسقاطية المشهورة لدراسة الشخصية مثل اختبار رورشاخ عام 1921، واختبار تفهم الموضوع عام 1953، الذي قدمه موری ومورجان. 
تعليقات




    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -