التحول المجتمعي في الوطن العربي
إعداد وإشراف : نادية عيشور
نشر : سوهام للنشر والتوزيع
2019
مقدمة الكتاب
لا ريب أن من خصائص البشر (كأفراد وجماعات ومجتمعات وتكتلات دولية) على غرار بقية المخلوقات الحية؛ هو عدم الثبات على حال، فمسيرة التطور الاجتماعي على صعيد الفكر والممارسة كانت ولا تزال مرهونة عمليا بتطور فلسفة الحياة وبتراكم الخبرة والوعي الاجتماعيين عبر مراحل مختلفة من الزمن. فلكل مجتمع مسيرة تاريخية تحدد ملامحه وهويته، تضبط موقعه في خارطة العالم، كما وترسم طموحه فيما يجسد من أهداف.وفيها يكون التغير - التغيير نحو الأفضل هو - عادة ما يحلم به ويرومه طموح هؤلاء البشر وتسعى إليه استراتيجياتهم؛ فقد تتدخل عديد العوامل - الموضوعية والذاتيةوبشكل قسري في كثير من الأحيان لتحول اتجاه هذا التغير نحو أسوء حال.
يتفق أغلب المفكرين والاقتصاديين والسياسيين وحتى عموم الشعوب أن الثورة العقلية والرأسمالية خلال القرون الأخيرة هي من قلبت العالم رأسا على عقب، إذ عجلت وتيرة التغيرات وضاعفتها مقارنة مع ما أحدثته نظيرتها من الثورات خلال قرون خلت وما زاد من سعتها وشدة تعقيداتها في عديد من المجالات، إنما هو التزايد الهجين للعوامل الظرفية وتفاعلها ضمن بعدي الزمان والمكان بوصفها مفرزات نمط هذا العقل الرشید ومنها: تجليات الحداثة - قيما وسلوكا-، التوسع في تكنولوجيا الاتصال والاعلام، انتشار العولمة كممارسة سياسية واقتصادية..
وكذا كفكر اجتماعي بوصفها منظومة حياة عالمية طغيان التفكير الجيو- سیاسي على شبكة الاتفاقيات المحددة الأشكال علاقات التعاون الدولية وكذا الناظمة لتقاليد وأعراف العمل لدى المنظمات المدنية العالمية، تدخل استراتيجيات التنمية المستدامة على أعقاب مخلفات سياسات التنمية التقليدية، تطور القواعد والقوانين الناظمة لشرعية المنافسة الدولية، ناهيك عن مستجدات تطور فلسفة توازن القوى العالمية والقوى المحتدمة في بؤر معينة في العالم، في ضوء ارتباطها بمسألتي الاستقرار والأمن والسلام العالمي..
هذا دون أن نغفل استراتيجيات هذه القوي التكريس التبعية والهيمنة الأزلية للعالم النامي والعاجز عبر استراتيجيات دبلوماسية واقتصادية وثقافية، ووفق آليات وطرائق علمية منهجية محكمة.
وكأمثلة حية ، أن ما نراه حاليا- في أفق التفاعل الحامي عبر راهن تمثلات المشهد السياسي الدولي، وما يحدث من مواجهات واحتدام للصراع الناعم والقاسي لم يكن إلا لغرض الاستئثار بأسباب التفوق الستيادي في العالم وبسط الهيمنة الشمولية. فالانشقاق داخل البيت الأوروبي بين بريطانيا والولايات الأمريكية المتحدة وبقية دول الإتحاد الأوروبي، والمواجذهات بين الولايات المتحدة والصين من جهة، ومع ایران من جهة ثانية، ومع روسيا وكذا تركيا وكوبا الشمالية من جهة ثالثة، ناهيك عن التقارب الصوري مع الكوريتين وإسرائيل والمملكة السعودية من جهة رابعة، كل ذلك ينذر ويدق ناقوس الخطر المحدق بمصالح العالم التابع في المستقبل القريب والبعيد، هذا الخطر الذي يستوجب وعيا عميقا بأبعاده لرسم استراتيجيات المواجهة والتحدي للتمكين من ضمان البقاء والحضور الدولي والحضاري.
لعل ما يدور في خلد الإدراك العام أن العالم المتخلف تحديدا يتذمر قلقا وانزعاجا مما يتجرعه من ويلات لهذه التحولات الدولية، وتفاعله مع مجمل اسقاطاتها في المجالات الاقتصادية والسياسية والإعلامية والثقافية وغيرها، هذا زيادة على رصيده السابق، مما كان مترسبا من مشكلات طال عمرها وتجذرت أسباب حيويتها ونشاطها في عمق ثقافاته المحلية، إذ أسدلت السياسات الوطنية والمجتمعات المحلية جفونها عنها وأسلمت عيونها السبات عميق.
فقد صار العالم الآن يرزح تحت عبء تدفق وتيرة السرعة والسبق في مجال التحول بشكل يفوق التوقع والخيال الممكن، فلم يعد يسيرا على الدول والحكومات التحكم في مسار هذه التحولات الداخلية والخارجية، وممارسة قواعد الضبط بكل صرامة ودقة وشفافية، نتيجة لما أضحى سائدا من صور الانفلات والانزلاق والمغامرة والاندفاع والفوضى، سواء على صعيد الدول أو المؤسسات أو الجماعات والتنظيمات أو حتى على صعيد الأشخاص كمخرجات مشتركة مترتبة عن تطور فلسفة ثورة العقل هذه.