مصالح الأبدان والأنفس
تأليف: أبي زيد احمد بن سهل البلخي
تحقيق: محمود المصري
الناشر: معهد المخطوطات الغربية ـ منظمة الصحة العالمية
يعد هذا المخطوط الذي حقق بوجهة معمقة، مرآة جلية لعلم حفظ الصحة في مطلع عصر التأليف الطبي العربي، وقد حقق علم الطب، نقلة نوعية على يد البلخي (مؤلف هذا المخطوط)، مقارنة بما كان عليه زمن جالينوس.
وما يجدر ذكره هنا عدم ملاحظة اقتباس البلخي من (أبقراط وجالينوس)، وإن كان قد اخذ عن من سبقه، الخطوط العامة لهذا العلم. وكذلك لم يكن الطبري والرازي، اللذان عاصرا البلخي، مستوعبين لموضوعات حفظ الصحة في مؤلفاتهما، كما فعل البلخي.ويتسم كتاب البلخي بحسن التصنيف والترتيب أولا، وبإحكام جمع المادة العلمية ثانياً، وبجودة العرض وتيسير المعلومة ثالثاً، ما جعله متماشياً مع هدف نشر الثقافة الطبية، كما أنه يعتمد في كتابه المنهج الاستدلالي، وأيضا منهج السببية ومنهج الخبرة العملية ومنهج الاختبار والمنهج التعليمي. كما تظهر فلسفة البلخي في الكتاب من خلال اعتماده المنهج القائم على استلهام الحكمة.
تميزت المقالة الأولى من كتاب البلخي، وهي «حفظ صحة الأبدان»، بالأسلوب التعليمي الذي اتسم بالإيجاز والوضوح، والاقتصار على الأسس العامة لعلم حفظ الصحة، ولعل ابرز موضوعاتها حديث البلخي عن حفظ صحة البيئة من خلال حفظ صحة المسكن والماء والهواء، وتحديد معايير الجودة في كل هذه العناصر البيئية، ثم الإفادة من ذلك في مجال التطبيق، واقتراح الحلول من اجل تامين شروط بيئية صحية أفضل.
إن ما كتبه البلخي حول أسباب الهجرة بشكل عام، والأسباب الصحية بشكل خاص، يعد أساسا لما نسميه اليوم بالجغرافية البشرية المتعلقة بصحة البيئة. ولعل ما أصله من مبادئ تصميمية معمارية متمثلة بمبدأ الاحتيال، ومبدأ الانتقال، ومبدأ التداخل له أهمية كبيرة في تحسين الظروف البيئية في السكن الصحراوي.
وتؤكد المقالة الثانية: «حفظ صحة الأنفس»، على أن البلخي هو الرائد الأول لعلم الصحة النفسية، فلم يعرف احد قبله جعل الطب النفسي والصحة النفسية فرعاً من فروع الطب، وفي الوقت نفسه، أعطاه استقلاله وتميزه من الفروع الأخرى. وقد جاء البلخي بنظرة متكاملة في تصنيف العوامل المسببة للاضطراب النفسي، يتوافق مع تصنيفنا اليوم لمسببات الاضطراب النفسي، وذلك على النحو الآتي:أسباب نفسية وتطورية، أسباب اجتماعية وبيئية، أسباب حيوية تقابل إرجاعه بعض الاضطرابات النفسية إلى تأثيرات مادية في الجسم، كما في الحزن والوساوس.
كما قرر البلخي أن نفس الإنسان تتعرض للمرض كما يتعرض له جسمه، بل إن الأعراض النفسية أكثر ملازمة للإنسان، وبناء على ذلك اوجب رعاية مصالح النفس، ووقايتها من الاضطراب. كما أثبت العلاقة المتبادلة بين صحة النفس وصحة البدن، وتأثير كل منهما على الآخر.
واعتمد البلخي في تدبير صحة الأنفس على ما سماه الحيل، وقسمها إلى قسمين: حيل من خارج النفس، وحيل من داخل النفس. فالحيل التي من خارج النفس تعتمد أساسا على مساعدة الطبيب.
وأما الحيل التي من داخل النفس فهي ما نعرفه اليوم بوسائل النفس الدفاعية التي يتخذها الإنسان لصيانة نفسه من الأعراض النفسية المؤذية. ولقد نظر إلى الطب على انه يؤدي خدمة اجتماعية، لا على انه علم طبيعي، وهذا يتوافق مع رأي المؤرخ الطبي (سيجريست) الذي قال: «يجب أن نتذكر دائماً أن الطب ليس علماً طبيعياً، سواء بالمفهوم النظري أو التطبيقي.